دعوة إلى قراءة ما وراء (الظاهر السياسي والإعلامي الخادع)

TT

«تظن انك تشق طريقك بذاتك.. والحقيقة هي أنك أنت الذي يتم دفعه وتوجيهه».. جوته في (فاوست)، على لسان ميغستو فيليس.

قارئ نابه فاضل اقترح ـ بعد أن قرأ مقال الأسبوع الماضي ـ: ان نكتب مقالا مستقلا عن (مفهوم السياسة)، وسنفعل ـ إن شاء الله ـ في قابل الأيام.. ولعل هذا المقال توطئة مبكرة لما رغب فيه القارئ المثقف الفطن.. وفي واقع الأمر، فإن مقالنا هذا مدٌ لمقال الأسبوع الماضي (هل هي باطنية سياسية في العلاقة بين إيران وامريكا)؟.. مد للموضوع نفسه، إلا أنه أعم من العلاقة بين هاتين الدولتين، فهو ينتظم محاور متعددة من سياسات منطقتنا هذه، لا سيما (الجوانب الخفية) من هذه السياسات والمواقف السياسية.

(الظاهر) السياسي والإعلامي يصور أحوال المنطقة وكأنها ستشهد ـ بعد قليل ـ حربا أو حروبا بين اسرائيل وسوريا، أو بين أمريكا وإيران.. والظاهر السياسي والإعلامي يهيئ الرأي العام لذلك في هذا الاقليم.. والظاهر السياسي والإعلامي هو النقد الأمريكي العلني المتكرر لجولة جيمي كارتر للمنطقة ولقاءاته بقادة حماس مثلا!.. والظاهر السياسي والإعلامي هو: بناء مواقف وسياسات على هذا (الظاهر).. وهذا من أغرب السياسات وأشدها عجبا ودهشا.

لماذا؟

لأن ما دون الظاهر شيء مختلف أو على الضد.. وهذا هو الدليل أو الأدلة:

1 ـ قبل أيام التهبت المنطقة بتوقعات عن مواجهة عسكرية بين سوريا واسرائيل. ولقد ارتفعت حرارة التوقعات عندما اجرى جيش الدفاع الاسرائيلي مناورات وصفت بأنها الأضخم في تاريخ وجود اسرائيل، بيد ان ما كان يجري في الخفاء هو على الضد من هذه التوقعات.. ففي الأسبوع الماضي ثبت ـ في سوريا واسرائيل ـ معلومة متطابقة وموثقة توكد ان رئيس وزراء تركيا الطيب اردوغان قد نقل الى الرئيس السوري بشار الأسد رسالة صريحة من رئيس الوزراء الاسرائيلي أولمرت. خلاصة الرسالة هي:«ان اسرائيل مستعدة للانسحاب من الجولان مقابل السلام مع سوريا».. والسؤال السياسي الموضوعي ـ ها هنا ـ هو: هل هذا التبدل الكبير في المواقف حدث بغتة؟.. البغتة والمصادفة مستبعدتان من الحراك السياسي، لا سيما إذا كان الحراك على هذا المستوى الاستراتيجي.. ونفي البغتة والمصادفة يعني ـ بالضرورة ـ التدرج والتخطيط، وهذان العنصران يقتضيان ـ بالضرورة كذلك ـ مدى زمنيا غير قصير ينضجان خلاله. ومما لا شك فيه ان هذا المدى الزمني كان موجودا في أثناء الظاهر السياسي والإعلامي الذي كان يوحي ـ قبل المناورات الاسرائيلية وفي أثنائها وبعدها ـ بأن حربا بين سوريا واسرائيل توشك ان تقع.. والمعنى: ان ابلاغ اردوغان بشار الأسد بالموقف الاسرائيلي، جاء ثمرة لمفاوضات (سرية): طويلة ومضنية بين الوسيط واسرائيل، وان القيادة السورية كانت على علم ـ وفي أثناء انعقاد القمة في دمشق ـ بذلك، لأنه من المستبعد سياسيا: أن تكون المبادرة التركية قد بدأت ونشطت بعيدا عن معرفة وموافقة السوريين.. يضاف الى هذا (سوابق) الموقف السوري التي لا تجعل هذا التبدل الحاصل اليوم مباغتا. فبعد حرب 1967، لم تكن هناك خطط حربية من جانب اسرائيل أو سوريا ترهص بمواجهة عسكرية بينهما. فمنذ تلك الحرب لا تزال الأمم المتحدة تطيل عمر قوة الطوارئ الدولية على تخوم الجولان.. وسوريا وافقت على قرار مجلس الأمن رقم 242 وهو قرار يتضمن (السلام) المشروط بالانسحاب من الجولان.. ثم شاركت سوريا في مؤتمر مدريد، كما شاركت منذ قليل في اجتماع أنابولس.. وفي مدى زمني طوله أربعون عاما تقريبا (1967 ـ 2008) كانت هناك اتصالات بين الطرفين في هذه الصورة أو تلك (وديعة رابين نموذجا).. ولم تتوقف الاتصالات إلا عام 2000.

وإذا حصل سلام بين سوريا واسرائيل ـ اليوم أو غدا أو بعد غد أو بعد بعد غد ـ فمن المرجح ان يدخل لبنان في هذه المظلة، كأن تنسحب اسرائيل من مزارع شبعا، لأن الاحتلال الاسرائيلي لهذه الأرض اللبنانية مسوّغ ـ صهيونيا ـ بالتمركز اللصيق بـ (العدو السوري)!!.. وإذا انسحبت اسرائيل من بقايا الأرض اللبنانية أمكن تسوية قضية سلاح المقاومة اللبنانية.. وفي ضوء حدوث ذلك ستختلط أوراق كثيرة أو تتبدل بمقتضى مفاوضات أو اتصالات (سرية): أُذن للرأي العام ان يعلم طرفا منها (يبدو ان الأمريكان غير راضين عن السلام السوري الاسرائيلي ولذا سارعوا الى كشف طبيعة الهجوم الاسرائيلي على موقع سوري)!!

2 ـ حين صرح خالد مشعل بأن حماس مستعدة لقبول دولة فلسطينية تقوم على الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1967، فإن هذا الاعلان (الجريء) ينبغي ان يفهم في سياقه السياسي المرتبط بتفاهمات غير معلنة.. نعم. فهذا التصريح بدا وكأنه (جزء) من صفقة تبلورت خطوطها وخيوطها في لقاء جيمي كارتر مع قادة حماس، إذ تطلبت دبلوماسية الصفقة ان يصدر عن حماس كلام صريح ورسمي ومن أعلى مستوى سياسي: يطمئن اسرائيل كما يطمئن أوساطا امريكية ـ حالية أو مقبلة ـ: كلام فحواه: ان ليس في نية حماس ولا اجندتها (تدمير) اسرائيل عام 1948.. كلام فحواه (الواقعية السياسية) التي تقنع بـ(المكاسب النسبية) تفاديا لآثار المطلقات السياسية السابقة.. مثال ذلك: الرفض الفلسطيني والعربي لقرار التقسيم عام 1947. فلو تُقبل هذا القرار وطبق لتبدل الى الأفضل ـ بالتأكيد ـ مسار القضية الفلسطينية ومصيرها.. وفحوى الكلام ـ كذلك ـ رسالة تقول: إن حماس حركة تتمتع بـ(مرونة) الحركة والقرار والتصرف والتفاوض، ومن ثم ليس واقعيا ولا عقلانيا ان تتخوف اسرائيل من (الجمود الذهني والسياسي) لدى حماس!!.. ثم ان موقف حماس (تترس) بما عرف بـ (وثيقة الأسرى الفلسطينيين)، وهي وثيقة صريحة في المناداة باقامة الدولة الفلسطينية في حدود الأرض المحتلة عام 1967.. وهذا المفهوم نفسه انتظمه اتفاق القاهرة بين الفصائل الفلسطينية.

والدلالة المقصودة في هذا المحور هي: أن واقع الضرب والحرب والكر والفر بين حماس واسرائيل، كان يواكبه (نشاط سري مكتوم وهادئ).. نعم.. ولم يحصل هذا التبدل المثير في المواقف بغتة أو عقب رؤيا منامية، أو في لحظة سقوط العقل في (اللاوعي) أو بمجرد مجيء كارتر، وانما كانت المعالنة بهذا الموقف الجديد نتيجة مفاوضات سرية طويلة تخللتها تصريحات مسؤولين اسرائيليين بضرورة التحدث الى حماس.. ولم يك جيمي كارتر إلا أحد أطراف تلك المداولات، ولكنه طرف يتحدث بصراحة أكثر من غيره.. يلحق بهذه الدلالة: نظريتان أخريان: الأولى: انه على الرغم مما (ظهر) من نقد أمريكي رسمي لجولة كارتر، فإن الأخير نفى ـ بحسم ـ أن يكون أحد قد طلب منه ـ مباشرة ـ الكف عن التفاهم مع حماس.. والأخرى هي: ان قياديا في حماس اعلن منذ يومين: ان التهدئة في غزة ليست بعيدة.. وبديه ان التهدئة لا تكون إلا ثمرة (تفاهمات مكثفة وغير معلنة): مباشرة أو غير مباشرة.. وبذكر غزة ينشأ عن (التزامن) بين المسارين: السوري والفلسطيني سؤال يقول: هل ثمة علاقة انفراجية مشتركة؟

ويلزم ـ ها هنا ـ اجتلاء ثلاثة أمور والتوكيد عليها وهي:

أولا: ان التاريخ السياسي للأمم والدول ممتلئ بوقائع (غير معلنة) في السياسة.. قد يسمى ذلك (مؤامرة).. وقد يسمى (تدبير خفي).. وقد يأخذ صفة (الحفاظ على أسرار الأمن الوطني)، أو الحفاظ على أسرار العلاقات بين الدول.

والمثال الحديث العهد بالوعي هو (اتفاق أوسلو)، فهو (نشاط سياسي سري): بالمعنى النظري والتطبيقي، الزماني والمكاني.

ثانيا: سرية المفاوضات ـ بين الأطراف الاعتبارية ـ ليست عيبا في ذاتها بيد ان نفي العيب المبدئي مشروط بـ(الحصول على الحقوق والمصالح)، وبخلوّها ـ أي السرية ـ من كل قيد تعسفي أو ماكر يقيد الحركة والقرار في المستقبل. وقد تنجح المفاوضات السرية وقد لا تنجح، فهي كالعمل العلني ليست مضمونة النتائج، والزمان والمكان ليسا ـ دوما ـ مهادا مواتيا.

ثالثا: ان مهارة اللاعبين السياسيين قد لا تبلغ مرتبة العبقرية، ولكن هؤلاء اللاعبين يستفيدون من (ضخامة الغباوة) لدى أعدائهم.. مثلا: في أثناء الحرب العراقية الايرانية، طرد صدام حسين ألوف العراقيين بتهمة أن أصلهم (فارسي)، وألقى بهم على الحدود مع ايران بدون أوراق ثبوتية، فلجأوا الى ايران، وبعد سقوط النظام عادوا الى العراق مزودين بـ(روابط ديمغرافية خاصة) مع ايران. فهذه خدمة جغرافية وسكانية وسياسية قدمها نظام صدام حسين للنظام الايراني!!

ويدرك أهل الحصافة السياسية: ان النقطة المركزية في المقال هي: انه في السياسة لا يصح بناء المواقف والأفعال على (مجرد الظاهر السياسي والاعلامي)، ولأجل تصحيح هذا الخطأ ينبعي:

أولا: التبصر في أن هذه ليست دعوة الى (الباطنية السياسية)، بل هي رؤية لما ينبغي ان يكون من (وعي سياسي) ناضج وفطن يتعرف على (حقائق الوقائع)، ويتحصن من الغرر السياسي، والتضليل الاعلامي.. وربما تطلب هذا الأمر حملة سياسية اعلامية تستهدف (محو السطحية السياسية) على غرار محو أمية القراءة والكتابة.

ثانيا: وإنما تمحى السطحية السياسية بـ:

1 ـ دراسة التاريخ السياسي البشري ـ القديم والحديث ـ. فمن شأن الدراسة النابهة لهذا التاريخ: ان تزود الدارس بمنظومة من (المعلومات والوقائع والمواقف غير المعلنة) التي صنعت ـ مثلا ـ الثورتين: الفرنسية والشيوعية.. والحربين العالميتين: الأولى والثانية.. وكانت وراء قيام اسرائيل.. ووراء نشوء تنظيم القاعدة.. ووراء غزو العراق الخ.

2 ـ الاهتداء بنهج القرآن في العصمة أو الحصانة من (الانخداع بالشكل الظاهري) ولو طلي هذا الشكل بطلاء ديني مكثف ولامع.

أ ـ فالنفاق (التزام قانوني بالشكل الإسلامي) يغطي الكفر القلبي بالاسلام: رسالة ورسولا. ولقد بصر القرآن المسلمين بهذا الشكل الخادع لئلا ينخدعوا به:«إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون».

ب ـ والمسجد أعظم مظهر ديني في المجتمع المسلم، لكنه إذا اتخذ ستارا للكيد والاضرار: هدم، وحرمت الصلاة فيه دون أدنى انخداع بمظهره الديني:«والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وارصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد انهم لكاذبون. لا تقم فيه أبدا».