النفط العربي والكتب

TT

رغم إلحاحنا على معرفة سبب دعوة العرب الآن وليس غداً، كضيف شرف إلى معرض لندن للكتاب، منتصف هذا الشهر، بقيت الإجابات الإنجليزية دبلوماسية، ولا تشفي الغليلَ. أو ليس مشروعاً السؤالُ، لماذا بعد الفشل الذريع الذي مني به العالم العربي في معرض فرانكفورت للكتاب، جاءت لندن لتحتفي بهذه الثقافة العربية التي تفيد كل مؤشراتها بهبوط حادٍ وتمزقٍ لا يبشرُ بخير يذكر. لسنا وحدنا مَنْ يسأل، بل ثمة صحافية بريطانية قالت بغيظ واستهجان: «أين كان هؤلاء العرب قبل اليوم، هل كانوا نائمين؟». الصحافية البريطانية على حق. فقد بدا العرب في لندن وكأنهم انبجسوا من عدم، وصار لهم كتاب مشهورون ونجوم في الأدب، وحضور في سوق الكتاب. وهو أمر يفرحنا، لكنه يحيرنا ايضاً، بدون أن يدفعنا للكلام عن مؤامرة جديدة تحاك ضدنا. فنظرة سريعة على ما حدث بعد نشر تقرير التنمية البشرية عام 2002 الذي هزّ العربَ وفجعهم، قد يساعدنا على إدراك سرّ هذه «المعجزة» العربية الثقافية المستجدة.

لم يتأثر أهل الضاد بشيء قدر ذهولهم من معلومة في التقرير تقول ان ما ترجمته اسبانيا وحدها خلال سنة واحدة يساوي مجموع ما ترجمه العرب خلال القرن العشرين. هبّت من يومها مؤسسات عديدة تريد ان تردم الفجوة، حاولت «مؤسسة البابطين» أن تترجم ومثلها فعلت «مؤسسة الفكر العربي»، وبدأت المبادرات تهلّ من كل صوب، لغسل العار الثقافي المستفحل. لكن هذا كله بدا كنقطة في محيط الكرم الإماراتي الذي سيقلب الطاولة. فأسعار النفط طارت وحلقت، وبات بمقدور الطموحين من العرب أن يطلقوا مشاريع عملاقة تغيّر المعادلة. ليس قليلاً أن تقرر مؤسسة «كلمة» ترجمة كتاب كل ثلاثة ايام أو أن تعلن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، تخصيص وقفية قدرها عشرة مليارات دولار للثقافة والتنمية، وجزء سخي منها يذهب للترجمة. وإن كنتَ تريدُ أن تعرف ماذا كان الناشرون العرب يفعلون في لندن طوال ثلاثة ايام، فقد كانوا يحاولون الفوز بعروض لترجمة كتب أجنبية إلى العربية، يعرفون سلفاً ان ثمة مؤسسات هي على استعداد لتمويلها. ومقابل عشرات الكتب التي تنقل إلى العربية هذه الأيام، هناك كتب عربية معدودة يرغب الشقر في ترجمتها إلى لغاتهم. ومن هذه المعادلة غير المتكافئة استفاد روائيون مثل علاء الأسواني وخالد الخميسي ورجاء الصانع وغيرهم، وسيستفيد آخرون. وليس عيبا القول ان كاتبنا الكبير بهاء طاهر، ما كان ليُسيل لعاب المترجمين الأجانب لولا «جائزة بوكر العربية»، الممولة إماراتياً هي الأخرى. ففوزه بها أخيراً فتّح الأعين على رجل، آخر ما يفكر فيه هو أن يخوض مغامرة التسويق لنفسه وأدبه. وبكلام آخر، فإن المبادرات الطائية التي أتاحها جنون البورصة النفطية يؤتي شيئاً من الثمر. والأدب العربي الذي احتفيَّ به في لندن ليس سوى رأس جبل من الجليد يفترض ان نعرف بوجوده دون أن نراه. فمعرض لندن ليس للقراء الرومانسيين، وإنما هو لتجّار الكتب والمنخرطين في سوق النشر، والمطلعين على خفاياها. وناشرونا هناك لم يكونوا برفقة المؤسسات العربية التي تدعمهم سوى تلامذة في سوق صناعية للكتب، تدر على اصحابها ذهباً، فيما لا يزال الناشر العربي يحار ما يفعل بمئات النسخ التي يطبعها للكتاب الواحد. والهجمة العربية على سوق الكتب التي اتاحتها المداخيل النفطية الحالية، لا بد أنها تغري الكثيرين. وإن كانت باريس قد فضلت تكريم إسرائيل في معرضها للكتاب واستعداء العرب، فهي على الأرجح لم تلتفت للجانب الاقتصادي قدر تركيزها على سياسة ضيقة الأفق.

يربط العربي باستمرار بين الترجمة والنهضة، هكذا كان الحال أيام الخليفة المأمون، وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكن أمورنا تبدو اكثر تعقيداً اليوم، والتركيز على الغرب وحده، قد لا يكون شفاء لجروحنا النازفة. ففي الشرق الأقصى أمم نهضت بإرادة وطنية فولاذية، وكتّاب لهم فلسفات ورؤى قد تكون اقربَ إلى روحنا الشرقية الحائرة، من كتابات الروائية النمساوية الفريدة يلينك التي ترجم كتابها «العاشقات» مشوهاً ومعدلاً، بحجة انه لا يناسب ذائقتنا العربية المحافظة. وهذا من عجائب الترجمات، فإما أننا بلغنا سن الرشد ونتعاطى مع الثقافات الأخرى بوجه مكشوف، أو أننا نحجر على أنفسنا. فحين سئل المترجم عن سبب تدخله السافر في النص قال: «إذا قرأ الناس النص كما هو، سيتصورون أن الكاتبة عاهرة وقوادة وقليلة الأدب»، فإذا كان الغرب يصدمنا إلى هذا الحد، فلنلقِ نظرة على شرق أهملناه حتى ألغيناه من خريطتنا. وأمام المؤسسات السخية والطموحة التي تريد أن تخرجنا من غفلتنا، تحديات بحجم الجبال، فإن هي أتتنا بالكتب المترجمة، ما السبيل لإقناع 250 مليون عربي أن هذه الكتب مولت لأجل إنقاذهم من غفلتهم، وأنها لن تستمد اهميتها إلا من فضولهم وحبهم للمعرفة. والسؤال الأصعب، هو لمن تترجم الكتب في ما بات كتابنا الأكثر قراءة، يكتبون بالعامية. فقد ترجمت رواية أحمد العايدي «أن تكون عباس العبد» إلى الإنجليزية والهولندية، فيما يصعب على اللبناني أو الأردني ان يقرأها ويفهمها بالمصرية، لذلك فغاية العايدي ـ كما قال ـ هي أن يترجم إلى العربية، كي يصل إلى عدد أكبر من القراء. وهكذا ترى انه بات عليك ان تترجم كل شيء بعد ان صارت الفصحى غريبة بين أهلها والعامية حبيسة جغرافيتها الضيقة. ومع ذلك، اعتبر المنظمون لمعرض لندن للكتاب ومعهم «المركز الثقافي البريطاني» ان المشاركة العربية كانت نجاحاً استثنائياً وجلبت حضوراً غير عادي، وهو ما يثلج صدورنا، لكنه لا يخفف أرقنا. فهل نحن في حلم أو علم؟ أو لسنا مؤقتاً في جنة الأموال العربية التي تضخّ، أم علينا أن نصدق بأن القطار قد وُضِعَ على السكة وانطلق؟

[email protected]