في سبيل الحوار

TT

في طرفة جميلة ذات مغزى، يُقال أن يابانياً وأميركياً ذهبا الى المقبرة لزيارة موتاهم، فقام الأميركي بوضع إكليل من الزهور على قبر قريبه، فيما قام الياباني بوضع حفنة من الأرز على قبر قريبه، فنظر الأميركي إلى الياباني بازدراء وسخرية، وقال له: «يا ترى متى ينهض قريبك لتناول الأرز؟»، فرد عليه الياباني بهدوء قائلاً: «عندما ينهض قريبك لشم الزهور!». المغزى هنا هو أن الأرز والزهور ليست إلا رموزاً، أو لنقل تجسيداً لمشاعر تحملها النفس تجاه المتوفى، فيُعبر عنها بمثل هذه الرموز المادية التي لا تعني شيئاً في ذاتها، ما لم تكن مرتبطة بهذا الشعور أو ذاك، هذا الإحساس أو ذاك. وبنفس المعنى يختلف التعبير عن الود أو عدمه في أسلوب التحية لدى مختلف الشعوب والثقافات والمجتمعات.

فمثلاً عندما يريد الأسترالي الأصلي أن يحيي صاحبه، يقوم بمد لسانه في وجهه، وكذلك يفعل الآخر. وفي اليابان تكون التحية بالركوع المتبادل، دون النظر في الوجه مباشرة، فتلك إهانة، بينما عندما يتصافح غربيان، ولا ينظر أحدهما في وجه الآخر، فتلك هي الإهانة. وفي الهند فإن جمع الكفين معاً بصورة طولية، وإحناء الرأس بخفة هو التحية والتعبير عن الود، فيما يقوم الصديق بشد لحية صديقه عند اللقاء في بعض القبائل الهندية، وفي الأسكيمو يحكون أنوف بعضهم البعض ببعضها تعبيراً عن التحية، شبيه بالحال في منطقة الخليج العربي، فيما يضع الرجل رجله في وجه صديقه تعبيراً عن التحية في بعض مناطق الفلبين. كما أنه لدى بعض القبائل الآسيوية تكون التحية بأن يبصق الصديق إلى جانب صديقه تعبيراً عن التحية. وأذكر أنه عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة طالباً في السبعينيات من القرن الماضي، أن الأميركيين كانوا ينظرون إلينا نحن، الطلاب العرب، نظرة ريبة حين نتعانق، أو نمسك بأيدي بعضنا بعضاً حين نتجول في الأسواق، ظناً منهم أننا من «الغيز»، أو أحاديي الجنس، حيث أن الرجل لا يعانق الرجل عندهم ولا يُقبله. وفي ذات السياق، كنت عندما أجلس مع بعض الأصدقاء من الأميركيين، يرفعون أرجلهم على الطاولة، والقدم في وجه المقابل تماماً، وهذا بالنسبة لنا قمة الإهانة، ولكنه لا يعني شيئاً لديهم، ولكن الحال تغير اليوم، مع تداخل الثقافات في عصر العولمة، فأصبح مسك اليد لا يعني سوى الود المتبادل، بل وأصبح العناق شيئاً معتاداً بين الذكور في الغرب، دون أن يكون لذلك معنى مختلف عما هو عندنا، بعد أن عرف كل منا ثقافة الآخر. المراد قوله هو أن التعبير عن المشاعر والأحاسيس يختلف بين الشعوب والثقافات، وما يختلج في الذات من عواطف.

المشكلة تكمن حين لا يكون هنالك فهم مشترك بين مختلف الشعوب والثقافات في فهم الرموز والإشارات التي تعبر وتشير وتجسد مادياً ما هو كامن في النفس. فأن يرفع أحدهم قدمه في وجهنا، كما في بعض مناطق الفلبين، أو أن يبصق حين يرانا، فإن ذلك قمة في الإهانة، قد تجر إلى مشاكل لا أول لها ولا آخر بين الأفراد، فكيف هو الحال حين تكون الدول والجماعات والعقائد هي المعني بالأمر، ولكن حين يكون هنالك تفاهم مشترك، فإن المشكلة تنتفي، إذ يكون كل طرف على دراية بما ترمز إليه الاشارة من معنى، ولا يكون الهاجس هو ذات الاشارة أو الرمز. بهذا المعنى يمكن القول أن جزءاً كبيراً من الخلاف والصراع بين الديانات، في شكلها العقدي الصرف، بعد أن نجردها من التراكمات والإضافات التاريخية والثقافية الفردية والجماعية، هو اختلاف في اللغة، وصراع مدفوع بذات الرمز والإشارة، وذلك كما يُعبر أحد رموز «الصحوة» عن ذلك حين يُعلن أنه: «لا حدود للمعركة مع الصليب على الأرض، ولا نهاية لها إلا قيام الساعة». (الصحوة.. المواجهة وأزمة التخطيط)، ولكن حين التدقيق، والغوص إلى ما هو أبعد من الرمز، فإن الكثير من الاختلافات والخلافات تنتفي، إذ يتبين في النهاية أن المعنى واحد، كما أن فرك الأنف بالأنف، أو المصافحة، أو شد اللحى هو في النهاية لغة إشارة لشيء واحد هو إلقاء التحية والتعبير عن الود، وذلك حين تكون هذه اللغة مشتركة بين الطرفين، أو أن هناك فهماً مشتركاً بين الطرفين، ومن هنا ندرك المعنى الكامن في كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز، في المنتدى السادس لحوار الحضارات بين اليابان والعالم الإسلامي، حين قال: «كنت أفكر منذ سنتين أن جميع البشرية في وقتنا الحاضر في أزمة، أزمة أخلت بموازين العقل والأخلاق والإنسانية، ولهذا فكرت وعرضت تفكيري على علمائنا في المملكة العربية السعودية، لأخذ الضوء الأخضر منهم، ولله الحمد وافقوا على ذلك، والفكرة أن أطلب من جميع الأديان السماوية الاجتماع مع أخوانهم في إيمان وإخلاص لكل الأديان، لأننا نحن نتجه إلى رب واحد». هنا تجاوز الملك الرمز والإشارة، لينفذ إلى المعنى الحقيقي الكامن وراء ذلك، أو لنقل المحجوب باللغة والإشارة والرمز، وهو ما لم يتجاوزه صاحب مقولة: «المعركة مع الصليب»، الذي بقي أسير الرمز، وحبيس لغة لا لغة غيرها، دون أن يُدرك ما وراء الرمز، وما تعنيه اللغة المختلفة.

حين يكون هناك تفاهم مشترك، ولغة مشتركة تتجاوز اللغة، فإن كل الإشكالات والمشكلات تختفي، ولكن شرط ذلك هو الفهم المشترك، وذلك لا يكون إلا حين يضع هذا الطرف نفسه في مكان الطرف الآخر، وينظر إليه كما هو ينظر إلى نفسه. فمثلاً، يعتقد الكثيرون في العالم أن الإسلام ديانة وثنية، حين يرون منظر الآلاف وهم يسجدون أمام الكعبة أو يطوفون بها، أو وهم يتدافعون لتقبيل الحجر الأسود، أو وهم يتزاحمون لرجم ما يرمز إلى الشيطان في منى، وهذا شيء غير صحيح، فالإسلام دين توحيدي يؤمن بإله واحد للكون هو من يُعبد، وما هذه الشعائر إلا تجسيد وتعبير عن هذه الوحدانية، ولكن أكثر الناس ليس لهم إلا الظاهر، وخاصة عندما يؤجج هذا الظاهر بتعصب أعمى لهذا المذهب أو ذاك، هذا الرمز أو ذاك، ويغيب جوهر الدين عن كل ذلك، كما في قصة الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عن ذاك الرجل الذي سئل لماذا لا يبكي عند سماع موعظة يبكي فيها كل الناس؟ فقال: «لست من هذه الأبرشية».

وإذا كانوا هم قد اساءوا فهم شعائرنا، وما يكمن خلف هذه الشعائر من معنى، فقد اسأنا نحن أيضاً فهم رموزهم ودلالاتها. ولو فهمناهم، وفهمونا، لردمت هوة من البغضاء والأحقاد نحن في غنى عنها، فالجميع في النهاية يتجهون إلى كيان سام واحد، وقيم اجتماعية واحدة.. ليس من الضروري أن يؤمن هذا الطرف بما لدى الطرف الآخر، أو العكس، ولكن المهم أن يُدرك الجميع أن الغاية واحدة في النهاية، واختلاف الرمز والشعيرة يجب أن لا يُفسد للود قضية، وحينما جاء مسيحي هندي الى المهاتما غاندي سائلاً اياه كيف يتحول إلى الهندوسية، قال له غاندي: «إذهب وكن مسيحياً صالحاً»، وأجزم أن غاندي كان سيقول نفس الشيء لو كان السائل مسلماً أو يهودياً أو بوذياً أو غير ذلك، فكل الطرق تؤدي إلى روما، وفي هذا الصدد يقول المفكر الهندي والبولا راهولا: «ليس للحقيقة بطاقة».

نعم، العالم في أزمة، كما عبر عن ذلك الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولا خروج من هذه الأزمة إلا بالحوار، وحوار الأديان خاصة التي تقف خلف الكثير من الحروب والدماء بين بني البشر، وهو حوار يستوجب الإيمان به مبدأً، والإيمان بعدم احتكار الحقيقية من أي كان، وبغير ذلك سوف تستمر الأزمة، ويغرق العالم في مستنقع البغضاء والكراهية والعنف، مدفوعاً بتعصب لكلمات وإشارات ورموز لا تعني في ذاتها شيئاً بعيداً عن علاقتها بالإنسان، وكرامة الإنسان.