من وحي حديث كوندوليزا رايس

TT

أولاً: في حديث خاص في جريدة «الشرق الأوسط» تحدثت السيدة كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عن تجربتها الشخصية نتيجة نشأتها في ولاية آلاباما التي كانت أول الولايات الجنوبية التي انطلقت منها شرارة العصيان المدني ضد التمييز العنصري فقالت إن التعليم كان مخرجها ومخرج الكثيرين من فقراء العالم ومضطهديه للتخلص من براثن الفقر وظلمات الاضطهاد إلى نور الحياة الإنسانية الكريمة، وأضافت أن تجربتها الشخصية لها دور في تفهمها للجانب الإنساني في القضايا الدولية الشائكة التي تتعاطى معها بحكم موقعها مثل القضية الفلسطينية وقالت: «عندما أنظر تحديداً إلى الوضع الفلسطيني، أتفهم كيف أن الأسر الفلسطينية لا تستطيع أن تمنح أبناءها الأمل في مستقبل ناجح في ظل أفق سياسي ضيق ومحدود، ولكن لا بد أن يأتي اليوم الذي يعيش فيه الفلسطينيون في دولتهم المستقلة، وأن يأتي اليوم الذي يحلم فيه طفل فلسطيني بأن يصبح رئيساً لدولة فلسطين عندما يكبر». وذكرت السيدة رايس لا فض فوها أن تجربتها خلقت لديها تعاطفاً أكبر مع الجانب الإنساني في القضايا الدولية، فالعلاقات الدولية لا تقوم على مؤسسات ودبلوماسية وقيادات فقط، وإنما المهم في العلاقات الدولية أن يكون لدينا إحساس بالجانب الإنساني.

ولعل هذا الكلام يثير إعجاب القارئ بقدر ما يثير دهشته، لأن ممارسات الآنسة رايس خلال جولاتها المتتالية والفاشلة في الشرق الأوسط توحي بوجود انقسام أو انفصام بين المشاعر النبيلة التي صرحت بها لكاتب مصري وبين السياسات التي تمارسها، ومثال ذلك أن روحها الإنسانية المشفقة على الأطفال الفلسطينيين وأهمية تعليمهم وتسليحهم بإمكانية الحلم بمستقبل باهر، لم تترجم إلى واقع في وقت العمليات التي يقوم بها حليفها الإسرائيلي ضد الأطفال الفلسطينيين حين تقطف صواريخه وطائراته ومدافعه حياتهم وهم في عمر الزهور، وتدمر بيوتهم ومدارسهم فتحرمهم من أية فرصة من الفرص التي تشير إليها الوزيرة التي عرفت معنى الظلم والاضطهاد في طفولتها وشبابها، لكي يعيشوا حياة كريمة في دولة فلسطين المستقلة التي تحلم رايس لهم بها أحلاما وردية وعقيمة لأننا لا نراها تنعكس في الموقف الأمريكي من السياسات والممارسات الإسرائيلية، ويتعدى هذا الموقف القضية الفلسطينية إلى قضايا كثيرة تتعلق بالمنطقة، ففي العراق مثلاً نرى الولايات المتحدة بعد أن دمرت البلاد وعمقت الانقسامات بين أبنائها، وسمحت بتبديد أموالها في اختلاسات أمريكية ومحلية، تستمر في سياسة الوقيعة مع الجيران مستغلة أخطاء ارتكبت وترتكب، ومختلقة أحياناً أسباباً منطلقة من حرصها على أن يسود في المنطقة «الاضطراب» الديمقراطي و«الفوضى الخلاقة» التي ابتدعت واشنطن نظرياتها وتطبيقاتها العملية، ونسمع الوزيرة التي تتحلى حسب قولها بروح إنسانية عالية، تهدد مثلاً بتدمير إيران إذا أطلقت صاروخاً على إسرائيل، تهديد ليس بعقوبات أو إدانات، أو حتى تعبير عن الأسف كما تفعل كلما أمعنت إسرائيل في سياساتها العدوانية، إنما بالتدمير.. تدمير بلد بأكمله بسكانه وبيوته ومدارسه التي تؤوي الأطفال، الذين تبدى الوزيرة تعاطفاً معهم وتتفاوت درجته وفقاً لجنسيتهم أو انتماءاتهم أو المزاج الشخصي للتيار المحافظ المتشدد الذي حكم الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة والذي ينتظر العالم في غالبيته، إلا قلة، أن يغرب فيستريح من سياسات يصعب على المرء أن يجد لها سوابق، أو أن يصفها أوصافاً لا تتسم بالحدة.

والحقيقة أن ما ذكرته الوزيرة قد استفزني، كما لا بد أنه استفز كثيرين، فإذا كان من السهل أن يدلى المسؤول بتصريحات تشع بالنوايا الطيبة والإنسانية، خاصة إذا كان المتلقي متعاطفاً، فإنه يجب ألا يغيب عن المتحدث أن ما يسمعه سوف يقارن أقواله بأفعاله، وحينما تبدو الفجوة كبيرة فإن الاستفزاز قد يقود إلى الانفعال الذي يصعب ضبطه أحياناً.

ثانياً: وبعيداً عن تصريحات وزيرة الخارجية الأمريكية، فإن متابعة المفاوضات بين الرئيس أبو مازن ورئيس وزراء إسرائيل أولمرت ما زالت تشير إلى أنها مجرد مفاوضات من أجل التفاوض، وأنه لا توجد أمامها أية آفاق للنجاح، فالهدف أولاً قد تغير وفقاً لتصريحات الرئيس بوش من إقامة دولة فلسطينية إلى مجرد الاتفاق على تعريفها، وعلى إعلان مبادئ مما رأينا في الماضي الكثير منه مما انتهى أمره إلى أن تذره الرياح أو تضمه أوراق انهال عليها التراب. وليس هذا غريباً، خاصة أن السيد أولمرت يواجه تحقيقات جنائية لا نعرف مضمونها، ولكن تصريحات إسرائيلية تؤكد أنها خطيرة وأنها قد تؤدي إلى اضطراره إلى الاستقالة في وقت قريب لتحل محله سيدة لا تقل «رقة» عن السيدة كوندوليزا رايس، هي وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي عرفت بموافقتها لأية فرصة حقيقية لتسوية، هذا بالإضافة إلى أن أحزاباً رئيسية في الائتلاف الحاكم تقف بكل وضوح مع استمرار سياسات أقل ما توصف به أنها عقبة في طريق السلام، وفي هذه الأثناء فإن الانقسام الفلسطيني مستمر بسبب مواقف وتصريحات وتحريضات تنطلق من اعتبارات قد تختلف، ولكنها في النهاية تلتقي عند تكريس الانقسام الذي لا يمكن أن يستفيد منه طرف فلسطيني أو عربي، بل لا تستفيد منه سوى إسرائيل ومن يتخذون مواقف مهما كانت النوايا وراءها حسنة أو سيئة، فإنها تصب في خانة المواقف التي تعرقل أية تسوية حقيقية. وكثيراً ما أشعر أن الجهود المصرية التي لا تنقطع، ولم تنقطع حتى في أحلك الظروف لتوحيد الصف الفلسطيني، تواجه في صفوف الفريقين عقبات تعكس أطماعاً وطموحات لا يصح أن يكون لها مكان في هذا الوقت العصيب. وإزاء كل ذلك فمن الصعب تصور أن تسفر زيارة الرئيس بوش القادمة إلى المنطقة عن أي تحرك إيجابي حقيقي، خاصة أنه يأتي أساساً لتهنئة إسرائيل بالعيد الستين لاغتصابها أرض فلسطين واستمرارها في سياسة الاغتصاب. بل إن إسرائيل ما زالت تضع العراقيل أمام المحاولات لتحقيق ما يسمى بالتهدئة، والحقيقة أنني لا أحبذ هذا التعبير الذي قد يوحي بأن الهدف هو تخفيف العنف وليس إنهاءه، ولذلك فإني أفضل الحديث عن هدنة. والهدنة هي وقف للعنف غالباً لإتاحة الفرصة لترتيبات تالية يمكن أن تؤدي إلى تحقيق سلام إذا أريد له أن يستمر فيجب أن يستند إلى قواعد العدل والقانون، وحتى يكون ذلك ممكناً فإنه يتطلب أولاً موقفاً فلسطينياً موحداً على أساس التفاهم بين الشرعيتين وفقاً لما سبق أن تم الاتفاق عليه سواء في القاهرة أو في مكة والذي أطاحت به أسباب يجب تجاوزها تقديماً للمصلحة الوطنية والقومية، على اعتبارات مصلحية أو آيديولوجية أو غير ذلك مما لا يجوز أن يأخذ أولوية أيا كانت في وقت يحاول وطن أن يخرج إلى النور في ظل ظروف بالغة الصعوبة والدقة.

ثانياً: إن استمرار هذا الانقسام الفلسطيني يدخل في باب اللامعقول واللا مقبول. كما يدخل في نفس الباب الموقف الدولي المستضعف لأسباب لا يمكن قبولها أو الاقتناع بها.

ثالثاً: في ظل هذه الظروف التي لا أمل في الحديث عنها، فإني أيضاً لا أمل الحديث عن ضرورة تنشيط المساعي ـ أياً كان مصدرها ـ لرأب صدع موقف عربي يصبح إعادة اللحمة إليه ضرورة وطنية لكل دولة إضافة إلى كونه ضرورة قويمة تستلزم كل الاهتمام، ولعل تسوية الوضع في لبنان هي الاختبار، إذ أن كل الدلائل تشير إلى أنه كلما بدا أمل يلوح فإن سحباً سوداء كثيفة ما تلبث أن تغطي السماء، وغيوماً شريرة تلف الموقف كله.

وبينما أكتب هذا المقال فإن الأحوال في لبنان تبدو متجهة إلى أزمة جديدة وخطيرة تحمل في طياتها احتمالات يعز على المرء أن يحاول حتى تصورها. ولست أريد تبرئة أي طرف من الأطراف، فعندما يتعرض الوطن لخطر الانزلاق إلى بحر العواصف والظلمات، يكون الجميع مسؤولين ليس بينهم برئ، ويكون الأشقاء كلهم أيضاً مسؤولين إذا لم يبذلوا الجهد فوق الجهد لكي يتم تجاوز بحور الأمواج العاتية.