الأصولية .. تقليد أم تجديد؟

TT

شاع استخدام عبارة الأصولية في العقدين الأخيرين للتعبير عن الحركات الإسلامية التي تتبنى المقاربة الدينية السياسية، بعد ان راجت من قبل عدة تسميات لعل أكثرها انتشارا مقولة «الإسلام السياسي» المألوفة في حقل الدراسات السياسية.

المعروف ان عبارة «أصولية» استخدمت في الأصل لوصف اتجاه تقليدي محافظ داخل البروتستانتية ظهر في بداية القرن العشرين، رافضا للحداثة، وداعيا للرجوع للمبادئ الأساسية للمسيحية. واعتبر ان العودة تمر عبر القراءة الحرفية للكتاب المقدس بصفته «التعبير الحرفي عن الحقيقة الإلهية ومناط كل ما يتعلق بالأحكام الأخلاقية والسياسية الاجتماعية». حسب بعض الباحثين الذين يحصرونها في فضاء انطباقها الأصلي، إلا انه يمكن استخدامها إجرائياً للتمييز داخل الظاهرة الدينية بين ثلاثة مستويات نادراً ما يتم التمييز بينها وهي:

ـ التقليدية الأرثوذكسية التي تكرس استمرار التقليد الديني في أبعاده التأويلية والمعيشة كما تجسدت في الماضي الممتد، دون تأثر بحركة التحول التاريخي.

ـ النزعة التجديدية الإصلاحية التي تسعى لإعادة تأويل النص الديني وتحيين مضامينه القيمية والمعيارية وفق محددات ومقتضيات التأقلم مع اعتبارات الراهن.

ـ النزعة الأصولية في مقاربتها الحرفية الجامدة ورفضها المبدئي الجذري للتوجه الإصلاحي.

ولا بد هنا من التوضيح أن ما يميز المقاربة التقليدية عن النزعة الأصولية اللتين تتفقان في الانشداد للماضي هو غياب الوعي بمعطى التحول التاريخي لدى التقليديين في الوقت الذي يصبح محاربة هذا المعطى ورفض استحقاقاته مع الوعي به المقوم الأساسي في النزعات الأصولية. فالأصولية وإن كانت تتفق مع الارثوذكسية التقليدية في الظاهر إلا انها تختلف معها جوهرياً في أمرين أساسيين هما: القراءة الحرفية الجامدة للنص والبعد النضالي التعبوي الصراعي.

فالتقليدية على عكس التصور السائد ليست جامدة من حيث المقاربة التأويلية، بل هي مفتوحة على العدة التأويلية الواسعة التي يزخر بها التراث الديني في تنوعه وكثافته الاختلافية، في حين تقف الأصولية في موقف قطيعة مع هذا التراث المتنوع من منطلق وهم القراءة الحرفية المباشرة للنص للكشف عن مضامينه التي أخفق التقليد الموروث في استكشافها.

كما ان التقليدية تكتفي في العادة بالالتزام بالشعائر والقيم الدينية في جوانبها الطقوسية والسلوكية التي تتماهى مع الهوية الجماعية للأمة دون ان تحول المقوم الانتمائي الى مشروع سياسي او آيديولوجيا نضالية، ومن ثم سهولة التحكم فيها من لدن الدولة الحديثة التي لا تجد فيها تهديدا حقيقيا، على عكس المجموعات الأصولية شديدة التنظيم والمركزية التي هي في الحقيقة حركات حديثة في مسلكها التنظيمي ورهاناتها النظرية والعملية (على الرغم من موقفها السلبي من فكر الحداثة).

والمفارقة البادية للعيان هي ان النزوع الإصلاحي يتأقلم بصفة أسهل مع المسلك التقليدي بالنظر لمرونته التأويلية وهشاشته التنظيمية وانكفائه على البعد الشعائري الثقافي، في حين تطور المجموعات الأصولية حصانة ذاتية ضد التجديد باستثمار أدوات الفكر الحديث نفسها.

تتفق كل الأصوليات في هذه المعطيات بغض النظر عن الخصوصية الدينية، فلا فرق في العمق بين الجماعات الإسلامية التي تتبنى نضالياً الطرح السلفي الحرفي (الذي يجب ان يميز عن الاتجاه السلفي التقليدي الذي كان دوماً احد التيارات التأويلية المتعددة في سياقنا التراثي) وبين البروتستانية الانجيلية في أمريكا والأصوليتين الكاثولوكية والارثوذكسية في اوروبا التي تغذي التيارات اليمينية المتطرفة والأصولية اليهودية في نسختيها الصهيونية وغير الصهيونية في إسرائيل.

ان عبارة أصولية integrism هنا التي تترجم أيضا بالشمولية والتمامية لا تعني في الحقيقة الحفاظ على التقليد الديني القائم، فالأصوليون يتفقون مع التجديديين في الموقف النقدي من التراث، وإن اختلفوا في الغاية والنتيجة، بل هي إحدى نزعات الحداثة الرافضة للحداثة في سعيها لبناء مرجعية أصلية ثابتة للهوية الدينية. وكما انتبه هيغل قبل قرنين، فان قوة ديناميكية الحداثة تكمن في قدرتها على استيعاب نقيضها السلبي الذي هو أحد تعبيراتها.