الذي لم ينل «نوبل»

TT

منذ ان أعطي نجيب محفوظ نوبل الآداب انصرفت مصر الى الحديث عنه والكتابة عنه والاهتمام بكل حرف كتب او يكتب او يقول. وبما كان الحدث يبرر ذلك، بالاضافة الى ان شخصية محفوظ الوادعة والمليئة بالحكايات والشديدة التواضع، كانت في حد ذاتها حقلاً خصباً للقطاف. لكن دون ان تدري مصر، ادى هذا التكرّس في سبيل حامل نوبل الى اهمال عدد كبير ـ ان لم يكن جميع ـ الكتّاب والادباء والروائيين الذين عاصروا نجيب محفوظ وتألقوا في ظله وفي مرحلته.

هناك الكثيرون منهم. لكن يخطر في بالي بصورة خاصة، سيد القصة القصيرة يوسف ادريس، ذلك الطبيب الذي استخدم علم الجراحة في تشريح النفس البشرية والشخصية المصرية. وقد فعل ذلك بصراحة الاطباء وغالباً بشجاعتهم في توصيف الداء. وطالما واجه ازمات ومآزق حقيقية مع السلطة خلال المرحلة الناصرية التي كانت ترى في الادب خطراً عليها. غير ان محمد حسنين هيكل كان يُقنع عبد الناصر دائماً بانه ليس من مصلحة الدولة التعرض لأديب في حجم يوسف ادريس له سمعة مرموقة في العالم، وربما تحصّل على نوبل الآداب ذات يوم.

الغريب في يوسف ادريس انه تكهن بمجيء عبد الناصر في احدى قصصه القصيرة، ثم تكهّن بموته الوشيك في قصة بعنوان «الرحلة» التي تصور رجلاً يحمل جثة ابيه على عربة ويروح يخاطبه في الطريق قائلاً له «انت لا تعرف كيف تسوق... انت من جيل القطار... القطار الذي لا خيار فيه... لا تختار الا عبوديتك... انا من جيل العربة... الحرية عربة... الرأي عربة... وحدك تحدد متى واين. وحدك تعدل وتمضي تلّف وتدور. النهاية في يدك لحظة تريد». يبلغ الكاتب والده حبه له لكنه يُخبره ايضاً بمدى الخوف الذي كان يشعر به: «انت الوحيد في الدنيا الذي كنت اخافه. كنت دائماً هناك في بيتنا تربطني... تشدني... اذهب ألفّ واعود وكان لي في بيتنا جذر الاب، جذري معي... انا النبات... الذي تحرر وانطلق... ودائماً يا سيدي، يا ذا الانف الطويل».

يعاتب الابن اباه المتسلط قائلا «لماذا كنا نختلف؟ لماذا كنت تصر وتلح ان اتنازل عن رأيي واقبل رأيك. لماذا كنت دائماً اتمرد؟ لماذا كرمتك في احيان؟ لماذا تمنيت في لحظات ان تموت لأتحرر؟». غير ان الابن يعود ويخاطب اباه بحنان فائق. فهو قد ذهب الآن الى التاريخ واصبح تاريخ الاب والابن واحداً! طالما حلم يوسف ادريس بالحصول على نوبل وطالما عمل من اجل ذلك وسعى في سبيل الفوز، احياناً بصورة مثيرة للألم. وربما لو تحقق حلمه لنال من الاهتمام بعض ما ناله سيد الرواية المصرية وما يزال.