بعد لبنان تأتي فلسطين.. نعم لا بدَّ لليل القطيعة من آخر

TT

إن تعقيدات الأحداث والمواجهات التي وقعت على الساحة اللبنانية خلال الأسابيع الماضية كانت ـ بلا شك ـ بالغة الخطورة، وإن الصراع السياسي على مدار أكثر من عامين كان يحمل نبرات تهدد حاضر البلاد ومستقبلها، وفي أوج دوامة الجدل والسجالات الحزبية كان العنف يأخذ طريقة ـ أحياناً ـ إلى شوارع بيروت وأزقتها، حيث يسقط الشهداء على جانبي الطريق.. وفي لحظات الغضب العارم كان ينتصر صوت العقل والمنطق، فيتم تطبيب الجراح، وتطييب الخواطر حرصاً على وحدة الشعب والوطن.

بلا شك، كانت الحكمة التي يبدأها سماحة السيد حسن نصر الله في التعاطي مع حالات الاستفزاز والتحريض والتشويه، التي تناول فيها خصومه السياسيين مشروع المقاومة، هي بمثابة مدرسةٍ في أدب الاختلاف والتعقل وفن إدارة الصراع.

كان سماحة السيد نصر الله يدرك أن هناك من يتربص بالحزب الدوائر، ويدفع باتجاه استدراج المقاومة للدخول في معارك جانبية، بعيداً عن ساحة المواجهة الحقيقية مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بهدف التشهير بها والإساءة إليها، وإجبار وضع سلاحها على أجندة التفاوض والحوار وإخضاعه للمساومة والابتزاز.

جدلية العفو والمقدرة: كم شهيداً سقط من شباب الضاحية الجنوبية برصاص المتآمرين على المقاومة، وتحمل سماحة السيد الفاجعة، وعض على جراحه محتسبا، كي يحفظ تماسك الوطن ويحمي سلاح المقاومة في لبنان.

إن الوضع السياسي في لبنان ـ كان وما يزال ـ رهينة لحالة من الاستقطاب الرهيب بين تيارين: أحدهما؛ جسّد حالة الممانعة والمقاومة في وجه المشروع الأمريكي الصهيوني، والثاني؛ اتهم ـ من قبل المعارضة ـ بالموالاة له، وهذا ما جعل المنزلق الذي ينحدر إليه لبنان جدُّ سحيقا، وقد يأتي على وحدة البلاد، ويؤدي إلى تدمير نسيجها السياسي والعرقي والديني والطائفي في أتون حرب أهلية جديدة لا تبقي ولا تذر.

لقد اندلعت المعارك، وانفتحت ساحات القنص وسفك الدماء، وكانت التصريحات، التي أطلقتها عقيرة الساسة في أمريكا وإسرائيل تجد لها تساوقًا على ألسنة بعض أصحاب الأجندات الخارجية في لبنان... وحمي وطيس المهاترات ولغة التخوين والاتهام، وكما قالت العرب قديما: «والحرب أولها كلامٌ»، من هنا أخذ قلبُ المخلصين الحريصين على وحدة لبنان ترتفع وتيرة نبضاته مع كل ساعة تمر، ونحن من جانبنا على الساحة الفلسطينية كانت تتنازعنا المخاوف على مستقبل لبنان والمقاومة، فالأيدي على القلوب، خشية أن يجر التآمر والتحريض الداخلي والخارجي الجميع لشحذ سلاحه والدخول إلى ساحات الوغى وملاحمه التي لا تُحمد عواقبها... نعم؛ كنّا مطمئنين لقوة المقاومة وقدراتها وحنكة قياداتها، ولكن الخوف من التدخلات الخارجية كان يثير فينا الفزع، فأمريكا وإسرائيل قد تستغل هذه الأجواء المشحونة بالاحتقانات السياسية والأحقاد للدخول على خط المواجهات المسلّحة لحرف البوصلة وكسر شوكة المقاومة.

كنا مدركين أن خسارة المقاومة في لبنان هي خسارة للمقاومة في فلسطين، وسوف تؤثر سلبا على معنويات شعبنا وقدراته المتنامية على مواجهة الاحتلال، وأن خروج المقاومة منتصرة ستشكل بالتأكيد ضربة موجعة لأمريكا وإسرائيل.. كنا نعلم أن الوجع في الكف، وأن دخول حزب الله في أية مواجهات مسلحة على الساحة اللبنانية معناه نجاح المخططات الصهيوأمريكية في تفتيت وحدة لبنان وشرذمته طائفيا، وإخراجه من حلبة الصراع، وإطلاق يد إسرائيل لتعيث في الأرض الفساد، حيث ينحصر الصراع حينئذ في المواجهة الفاصلة مع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة.

لقد نجح السيد حسن نصر الله والقيادة السياسية في حزب الله بعدم الانجرار خلف مخطط الفتنة الطائفية، والابتعاد قدر الإمكان عن المربع الذي حاول فيه البعض إظهار الصراع وكأنه مستعرٌ على خلفية سنّية شيعية.

وبالتالي كانت فكرة إدخال الجيش ـ المؤسسة اللاطائفية ـ كطرف لإطفاء الحرائق، والإشراف على حماية الممتلكات العامة ومؤسسات الدولة خطوة ذكية من حزب الله، الذي آثر تسليم قلاع خصومه إلى قيادة الجيش، وعدم المبالغة في مظاهر الحسم والانتصار. الدخول على خط الأزمة: نجحت الجامعة العربية ودولة قطر في قطع الطريق على التدخلات الخارجية والإسراع في تطويق الأزمة، وجمع الفرقاء الى طاولة الحوار، ووضع استراتيجية خروج منها، حيث تمكن الجميع من وضع حدٍّ لخلافاتهم وتقديم التنازلات من أجل حماية شعبهم وتأمين مستقبل وطنهم، وحتى لا تعود البلاد إلى مستنقع الحرب الأهلية التي أتت على الأخضر واليابس في جبل لبنان وسهله وبقاعه قبل ثلاثة عقود من الزمان.

شكرا لدولة قطر التي رعت الحوار، والتي واصلت الليل بالنهار كي تؤتي الجهود أكلها، ويشرق فجرٌ جديد على لبنان، نموذج التعايش الطائفي والالتفاف خلف المقاومة. إننا على الساحة الفلسطينية نتطلع لقطر والجامعة العربية للقيام بجهد مماثل ينهي حالة التشظي والقطيعة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، ويعيد للفلسطينيين تماسكهم ووحدة صفهم، باعتبارهم المدافعين عن عرين الأمة العربية والإسلامية، وعنوان التجلي لعزتها وكرامتها. إن الخلاف بين الإخوة في حركتي فتح وحماس ليس بمستوى وتعقيدات الحالة اللبنانية، وإن الإشكالية القائمة هي فيمن يمد يده أولاً ليسجل كلمة التحية والسلام حتى لا تتكرر الأخطاء التي وقعت، والتي يتحمل الطرفان ـ بدرجات متفاوتة ـ وزرها. إننا بانتظار أن يحط وفد الجامعة العربية رحاله على أرض غزة قريبا، ليبدأ منها ـ إن شاء الله ـ الحوار.. ولكن، هل تسبق الجميع مفاجأة لقاء مرتقب بين الرئيس (أبو مازن) ورئيس الوزراء إسماعيل هنية؟

هذا ما نتمناه ونرجوه.

* المستشار السياسي في وزارة الخارجية الفلسطينية