إنجاز قطر اللبناني: الخلفيات الدولية والإقليمية

TT

استطاع اتفاق الدوحة اللبناني، أن يحتل واجهة الأحداث، فقد قدم للبنان حلا طال انتظاره، وقدم لقطر إنجازا سياسيا مرموقا. وبدا الإنجاز في لحظة ما أمرا محيرا. فما الذي دفع اللبنانيين فجأة إلى الانتقال من المواجهة إلى التفاهم، وما الذي أتاح لقطر أن تنجز ما لم تستطعه العواصم العربية الأخرى؟

لا نستطيع أمام تغير دراماتيكي من هذا النوع، يشمل لبنان والقوى العربية والدور الدولي، أن نقول ونجزم، وأقصى ما نستطيعه هو الإشارة إلى وقائع وتغيرات، إلى أن تتكشف المواقف المخبوءة التي جرت في هذه العاصمة أو تلك، وأدت إلى هذا الإنجاز الذي نشهده. وفي عملية الإشارة هذه لا بد أن نلحظ ما يلي:

أولا: إقدام الحكومة اللبنانية على خطوة هجومية، من خلال إصدار قراريها الشهيرين اللذين فجرا الأحداث، قرار خارطة الاتصالات الخاصة بحزب الله، وقرار تنحية المسؤول الأمني في مطار بيروت.

ثانيا: اندفاع حزب الله بشكل مباشر وحاسم، إلى السيطرة على بيروت، وشل قدرة خصومه السياسيين على الحركة، ثم إعلانه عن الاستعداد للانسحاب، وبشرطين غير تعجيزيين: تراجع حكومة فؤاد السنيورة عن قراريها، والذهاب فورا إلى طاولة الحوار.

ثالثا: اندفاع قطر في هذه اللحظة بالذات، وبعد لقاء جامعة الدول العربية، إلى الإعلان عن استعدادها لقيادة حوار لبناني من أجل الحل، وهي المعروفة بأنها صاحبة علاقات جيدة مع أميركا ومع إيران ومع سوريا. وموافقة الدول العريية الأساسية (السعودية ومصر وسوريا) على ذلك.

رابعا: نجاح الوساطة القطرية، وخلال خمسة أيام فقط، في دفع اللبنانيين باتجاه التوافق، وهو توافق قدمت فيه الأطراف تنازلات لم تكن تقبل بها أبدا قبل أشهر أو قبل أسابيع.

وهنا لا يمكن عزل هذا التسارع في الأحداث، ولا يمكن عزل هذا النجاح القطري المفاجئ، عن تطورات، أو عن تغيرات، حصلت في المواقف الإقليمية والدولية، ساعدت، وربما دفعت، باتجاه حصول ما حصل. هنا لا بد أن نلحظ المواقف التالية:

أولا: المقابلة التلفزيونية المهمة، التي أجراها الرئيس جورج بوش مع قناة العربية بعد سيطرة حزب الله على بيروت مباشرة. لقد فاجأ الرئيس بوش الجميع، وفاجأ حلفاءه اللبنانيين بشكل خاص، حين أدان سياسيا حزب الله، ولكنه لم يشر أبدا إلى موقف أميركي عملي ضد ما حدث. وحين قيل له أن حزب الله يهدد من خلال الوضع الجديد كبار الزعماء اللبنانيين، كان الجواب القنبلة الذي قال فيه إنه مستعد لإرسال قوة لحراستهم شخصيا. وقد فهم الجميع من خلال هذا الموقف أن واشنطن لا تريد التدخل في أزمة لبنان الجديدة، وأنها تترك لتوازن القوى أن يفعل فعله.

هنا... التقط الرئيس السنيورة الرسالة، فعقد اجتماعا لحكومته تراجع فيه عن القرارين، ورد حزب الله بسحب مسلحيه من الشوارع مع الإبقاء على حالة العصيان المدني. وهنا ..... التقط النائب وليد جنبلاط الرسالة، فأعلن فورا وهو شبه محاصر في منزله، أنه يؤيد الدعوة للحوار (دعوة نبيه بري ودعوة قطر)، وبادر إلى مصالحة غير مسبوقة بينه وبين منافسه الدرزي طلال أرسلان، وسلمه مفتاح القرار السياسي في الجبل، وبادر أيضا إلى إعلان أن مراكزه المسلحة كلها تم وضعها بتصرف الجيش اللبناني.

لقد أدرك الجميع أن تغيرا نوعيا قد طرأ على الموقف الأميركي، وأن هذا التغير ستكون له نتائجه المباشرة على الأرض. وسواء وصف الموقف الأميركي بأنه هزيمة، أو تخل عن الحلفاء، أو تراجع لهدف خفي آخر، فإن النتيجة بالنسبة إلى لبنان واحدة.

ثانيا: لحظة بدء الحوار في قطر، كانت العاصمة العراقية بغداد، تشهد حدثا جديدا من نوعه. الجيش العراقي يدخل مدينة الصدر بتغطية المروحيات الأميركية، ويبدأ حملة ضد مليشيا مقتدى الصدر، وهو المعروف بدعم إيران له. لقد كان هذا الحدث إعلانا مباشرا عن دعم ايران لحكومة المالكي، ولجيش المالكي، ضد تيار المقاومة للحكومة وللاحتلال الأميركي. وقد طرح هذا التغير في الموقف الايراني تساؤلا حول ما إذا كان ينطوي على مساومة أميركية ـ ايرانية داخل العراق، تظهر نتائجها في مكان آخر هو لبنان.

ثالثا: لحظة الإعلان عن نجاح الوساطة القطرية، جرى الإعلان عن تطور دراماتيكي آخر. أعلن التطور الدراماتيكي هذا عن البدء رسميا في مفاوضات سورية ـ إسرائيلية غير مباشرة، ومن خلال رعاية تركية. لقد كانت الولايات لمتحدة الأميركية ترفض دائما السماح لإسرائيل بفتح مفاوضات مع سوريا. وكانت الولايات المتحدة تصر دائما على أن الموقف من النظام السوري هو محاصرته والضغط عليه، لتغيير موقفه أو لإسقاطه. وشكل السماح الأميركي لإسرائيل بفتح الحوار مع سوريا إشارة إلى تغير أميركي مهم تجاه كيفية التعامل مع النظام السوري. ومن شأن هذا التغير في الموقف الأميركي من سوريا أن تكون له انعكاساته ونتائجه على الوضع داخل لبنان.

لقد سبق لكل من الإدارة الأميركية وإسرائيل، أن طرحتا بشكل خاص، تحليلا افتراضيا حول سوريا، يقول إن التفاوض معها حول الانسحاب من الجولان، قد يساعد على تغيير علاقتها النوعية مع ايران، ثم يساعد في تغيير علاقتها النوعية مع حزب الله. وما عجزت عنه سياسة الضغط على سوريا قد تفتح أبوابه سياسة التحاور معها. هذا التصور للأمور هو تصور أميركي ـ إسرائيلي لكنه ليس بالضرورة تصورا سوريا، إنما يحاول كل طرف في السياسة أن يختبر فرضياته من خلال العمل والوقائع الجديدة. وفي كلا الحالتين فقد طرأ تغير أميركي أساسي آخر في التعامل مع قضايا المنطقة.

رابعا: إن التغير في هذه المواقف الأميركية، تم بعد، أو أثناء، إلقاء الرئيس بوش لخطابه في الكنيست الإسرائيلي. هذا الخطاب الذي تماهى مع إسرائيل صهيونيا وتوراتيا، متجاوزا التماهي السياسي والاستراتيجي معها، وقد أثار هذا الخطاب غضب الفلسطينيين، كما أثار غضب حلفاء أميركا العرب، لأن ما فهم منه هو استنكاف أميركي عن الدفع باتجاه حل للموضوع الفلسطيني. ثم جاء خطاب بوش في المنتدى الاقتصادي العالمي (منتدى دافوس) المنعقد في شرم الشيخ، فأثار بدوره غضب العرب، وغضب مصر بالذات، فبدلا من الإدلاء بموقف أميركي يعدل من فداحة التماهي مع إسرائيل في الخطاب الأول، طرح مواقف نقدية تضع مسافة ابتعاد بينه وبين الأنظمة العربية، وترافق ذلك مع مواقف تبدو بروتوكولية في مظهرها، ولكنها ذات دلالة أبعد في مضمونها. فالرئيس الأميركي قاطع خطاب الرئيس المصري المضيف، وهو موقف لا تخفى معانيه على أحد، الأمر الذي دفع الرئيس المصري إلى أن يقاطع خطاب الرئيس الأميركي بدوره. ثم بادر مبارك إلى تخفيض المستوى الرسمي لوداع الرئيس الأميركي عند سفره، فبدلا من أن يكون هو في وداعه، غاب عن الوداع، وأرسل وزير الخارجية لأداء هذه المهمة، ولم يرسل حتى رئيس وزرائه.

هذا الغضب العربي من الرئيس الأميركي ومواقفه، هل كان له تأثير على تطورات الوضع في لبنان؟ وهل أدى إلى أن تطلق العواصم المعنية إشارات لحلفائها كي تتصرف بطريقة جديدة أدت إلى التفاهم السريع الذي عبر عنه اتفاق الدوحة؟ إن السؤال مبرر ومشروع، وإن كان الجواب الجازم عليه، وعلى غيره من الأسئلة، يحتاج إلى ترو، وإلى فسحة أوسع من الوقت.

إن مراقبة كل هذه التطورات والتغيرات، تؤشر إلى تغير حدث في المواقف الإقليمية، وإلى تغير حدث في المواقف الدولية، لا بد من أن تدرس وتراقب، لمعرفة تأثيراتها المقبلة على لبنان، وعلى فلسطين، وعلى المنطقة كلها. بعض التأثيرات سيكون إيجابيا، وبعضها سيكون سلبيا، ثم لا بد من جمع حصيلة الأرباح والخسائر.