وهناك.. الفراغ الفارغ!

TT

في مقدمة ترجمة د. طه حسين لرواية «القدر» تأليف المفكر الكبير فولتير، كتب أن هناك أنواعاً من الفراغ أي الابتعاد عن العمل والانشغال بشيء آخر. بشيء ممتع. أو مجرد ألا يعمل الإنسان. أو أن يجلس وينظر إلى لا شيء..

وفي هذه الحالة لا يكون الفراغ فراغاً. إنما هو نوع من الفراغ أو نوع من الامتلاء. فإذا كنت تعمل بيديك فواجبك أن تعمل بعقلك أو بخيالك.. أو بقدميك أو تتفرج على الذين يفعلون ذلك.

وفي إحدى قصص الأديب النمساوي شتيفان شفايج وجد أحد المسجونين نفسه بين جدران أربعة باردة وفي وحدة أشد برودة والليل كالنهار طويل. والحزن ثقيل والعزلة جبال فوق دماغه وعلى صدره. وليس عنده كتاب ولا أمل. فكان يتغنى بصوت مرتفع بكل ما حفظ من الشعر بكل اللغات التي يعرفها. ثم يحكي لنفسه الحكايات التي قرأها.. ثم يروي التاريخ كأنه هيردوت.. ثم يرتل الأناجيل والتوراة ويتخيل نفسه هوميروس. ويروي المعارك التاريخية في كل الحروب القديمة والحديثة. وبعد أن ينتهي من كل ما حفظ من الشعر والنثر والحكايات والأمثال والنكت، راح يتخيل مباريات الشطرنج الشهيرة لأساتذة الشطرنج وكيف مات الملك بعد تحريك ثلاث قطع أو أربع من الشطرنج.

ثم تحدث طه حسين عن «الفراغ الفارغ» فهذه كلها أنواع من الفراغ الذي ملأناه بشيء مفيد أو ليس مفيدا.. إبداعيا أو تكرارا مملا. ولكن الفراغ الفارغ هو الذي لا يجد فيه الإنسان شيئاً يملأ به الفراغ.. أو يسد خاناته أو فتحاته.. أو يجعل له لوناً أو طعماً أو وزناً أو قيمة.

مع أن الذي يحاول ألا يكون فارغاً يحاول أن يفعل شيئاً ما.

فلماذا لا يكون هذا الذي فعله صورة أخرى من الكلام الفارغ أو النشاط الفارغ. وعلى الرغم من أنه يحاول إلا أنه «يدور على الفاضي» كما نقول في لغتنا العامية.. أي يدور ولا يدور وينشغل ولا ينشغل. فليس الفراغ ألا نعمل وإنما الفراغ أيضاً أن نعمل ما لا قيمة ولا طعم له!