قراءة بين السطور لتسوية الدوحة

TT

تفاءلوا بالخير تجدوه. صناعة السياسي بث التفاؤل. الكاتب السياسي والصحافي يشرب النصف الفارغ من الكأس: لا هو متفائل ولا هو متشائم. رحم الله إميل حبيبي الذي عرفه قراء «الشرق الأوسط» كاتباً من كتابها. هذا الشيوعي المتسامح كان واقعياً. كان فلسطينيا «متشائلا»، وليس ماركسيا احتجاجيا وغاضبا. هكذا الكاتب المحترف. وهكذا يجب أن يكون.

من هنا، قراءتي لما بين سطور التسوية اللبنانية هي محاولة لقول بعض ما لا يقال. محاولة للمزج بين التفاؤل في تنفيذ الاتفاق وجهامة الواقع السياسي والميداني.

مبروك. أخيراً صار للبنان رئيس. استراح الموارنة باستعادة «صاحب الفخامة». يذكرني الرئيس ميشال سليمان بقائد آخر للجيش صار رئيسا. الظروف متشابهة. في عام 1958 كانت هناك «ميني» ثورة سنية درزية مسلحة على الرئيس كميل شمعون الذي حاول تجديد ولايته. كان هناك احتلال أجنبي. فقد أنزل الأميركيون قوات في لبنان إثر سقوط نظام نوري السعيد وعبد الإله في العراق.

نجح الرئيس فؤاد شهاب. عقد تسوية بين الشهابية والعروبة الناصرية. فرض سلاما وأمنا في لبنان طيلة الستينات، بفضل جهازه الأمني وإنجازاته الاجتماعية (نظام الضمان الاجتماعي). ظروف الرئيس سليمان ربما أصعب. هناك احتلال آخر جاثم على الأرض: ظلم ذوي القربى لذوي القربى. دولة الطائفة تهدد دولة الطوائف بقوة السلاح والاجتياح. استدار سلاح الطائفة من مواجهة اسرائيل إلى مواجهة الاخوة في الوطن والعيش المشترك.

لعل ما يساعد الرئيس سليمان على استئناف الحوار الوطني حول سلاح حزب الله، تقديمه لنفسه كرئيس محايد. وسيط غير منحاز. كسب سليمان ثقة الشيعة وسورية وإيران عندما خاض معركة الأمن خلال الاجتياح الشيعي للسنة والدروز، كمرشح رئاسي لا كقائد للجيش.

قواته لم تتعرض لميليشيا الاجتياح. لكن وفرت الحماية للحكومة المحاصرة. سليمان نصحها بالرجوع عن قرارها بوضع شبكة الحزب الالكترونية التجسسية تحت سلطة الدولة.

رئيس الجمهورية هو الذي يدير الحوار محل نبيه بري رئيس البرلمان الذي رفضت طوائف الحكومة محاورته، بعدما عطل البرلمان وشارك حليفه «حزب الله» في الاجتياح، هل ينجح سليمان كما نجح شهاب؟ أم يخفق كما أخفق «صاحب فخامة» آخر، العماد إميل لحود الذي بدأ رئيسا واعدا، وانتهى منحازا ومرفوضا.

نجاح سليمان أو إخفاقه مرهون بموقف الذين وثقوا به. هل يقبل حزب الله بإيداع سلاحه لدى الرئيس الموثوق به؟ أو على الأقل، هل يقبل نصيحته «باستخلاص الدروس والعبر» وتحييد حرابه وسهامه؟ أظن حزب الله قرأ الموقف الميداني. لقد اجتاح السنة بالكاتيوشا والكلاشينكوف وحاصرهم بالأركيلة والشيشة. قصف الدروز بالمدفعية الثقيلة. لكن اكتشف ان الذين اجتاحهم وقصفهم قادرون على تقطيع أوصاله اللوجستية.

لعل الحزب أيضاً يقرأ الواقع السياسي. هناك إقرار ضمني منه بخطأ نكثه بوعده بعدم استخدام سلاحه ضد مواطنيه. ها هو قد سحب مسلحيه. قَوَّضّ «مقاهي» الشيشة والأركيلة التي نصبها في قلب بيروت. ربما وجد ان ليس من المنطق استمراره في تخوين حكومة الطوائف بحجة ان أميركا تدعمها، فيما حليف الحزب بشار ينتظر بلهفة ضوءا أميركيا أخضر لمفاوضات الصلح مع اسرائيل.

إذا سالمت سورية في لبنان فالحزب مضطر للمسالمة. حسن حزب الله لا يستطيع التنفس والعيش إذا انقطع «بربيش» الوصل والاتصال بسورية عبر الحدود. الواقع ان الحزب ينتظر تطورات الأزمة الصامتة بين سورية «المفاوضة» لاسرائيل وحليفتها إيران التي تهدد بمحو اسرائيل من خريطة المنطقة. إذا انقطع «البربيش» فقد تأمر إيران الحزب بمعاقبة سورية، بعدم استخدام فيتو الرفض ضد أي اجراءات لبنانية لاستكمال نصب محكمة الحريري الدولية.

ربما أعطت سورية الضوء الأخضر لحلفائها في لبنان للتوصل الى تسوية في الدوحة القطرية، في مقابل تعهد سري بعدم الحاح لبنان على انعقاد المحكمة. سعد الحريري يؤكد ان اجراءات الانعقاد الدولية متواصلة. موقف الرئيس سليمان غير معروف. هل يضفي الشرعية الرئاسية على قرارات حكومة السنيورة المستقيلة بالسماح لمجلس الأمن بتشكيل المحكمة؟ هل يسلم متهمين أو شهودا اذا طلبت المحكمة ذلك من لبنان؟ أم يتخذ موقف الرئيس لحود الذي رفض بصم القرارات الحكومية بخاتمه؟

حركة سورية المعطلة في لبنان منذ اغتيال الحريري تنطلق من خشيتها ان ترى نفسها في قفص صربيا أمام العدالة الدولية. المحكمة أيضا قد تطالب سورية بشهود ومتهمين كبار وصغار. عندما رفضت صربيا تقديم أمثالهم قُصفت جوا الى ان رضخت. سورية قد لا تقصف. قد تتعرض للحصار الاقتصادي والعزلة الدولية.

محكمة الحريري أحد الاسباب التي قد تسبب صداعا آخر للرئيس الجديد. فهو لا يستطيع تكليف رئيس للحكومة الا بعد مشاورات نيابية، كما نص اتفاق الطائف. هل يمارس مُلاك الفيتو الجدد الاعتراض على ترئيس السنيورة أو الحريري الابن ويطالبون بـ «صاحب دولة» آخر، كنجيب ميقاتي مثلا؟ الميقاتي المقبول سوريا كاد أن يصبح يوما عمّاً مصاهراً لبشار. كنت ارغب في اعادة تكليف السنيورة. كان الراحل الحريري يعتب علي لظنه أني ضد الرجل. الواقع ان السنيورة كرجل تكنوقراط هو من أفضل القادرين على الاشراف على مناهج التنمية والنمو الاقتصادي. غرضي تجنيب المرشح الحريري الابن ويلات «محرقة الحكم» التي نالت من السنيورة.

حزني كبير على الديمقراطية السياسية في لبنان. ميثاق الطائف دعا إلى الغاء الطائفية السياسية. التسوية الجديدة اضافة للطائف. منحت الشيعة حق المشاركة والمعارضة معا. لبنان يواجه حالة «تعليب» اللعبة الديمقراطية، بصبها في قوالب طائفية فولاذية، بحيث لا تستطيع حرية «المعارضات» داخل الطوائف كسرها، لا سيما عند الشيعة، عندما يحتكر حزب الله الحق «الإلهي الأبدي» في تمثيلها في البرلمان وحكومة ممنوع عليه الاستقالة منها!

حتى قانون الانتخاب الجديد سيتم تفصيله وفق مقاييس طائفية بحتة، وبالذات على قياس عباءة حسن حزب الله المخيمة بسوادها على بيروت، من انشاء دوائر انتخابية خصيصا للشيعة فيها وفي ضاحيتها الجنوبية «عاصمتهم السياسية والسلاحية».

أعود لاشكالية السلاح، لأشير الى ان تسوية الدوحة تضمنت توبيخا ضمنيا قاسيا لحزب الله، من خلال تحريم استخدام السلاح والعنف لتحقيق مكاسب سياسية، وتذكيره بحق دولة الطوائف بفرض سيادتها وانهاء سلطتها على ارضها التي تحتلها وتحتكرها دولة الطائفة. التسوية تجاهلت قرارات تحريم السلاح الدولية، ولم تطالب إيران وسورية بضمان عدم ارتكاب «الحزب الإلهي» طوشة عنفية جديدة.

أعتقد ان النجاح الكبير في الدوحة كان نصرا حقيقيا للجهد العربي المشترك. لأول مرة تثبت جامعة عمرو موسى صبرها وقدرتها على حل أزمة عربية شديدة التعقيد. سواء نجح الحل أو لم ينجح، فالواقع يبرهن على انتقال مركز الثقل السياسي العربي إلى الخليج. السعودية شاركت في قرار الوساطة وستعمل على تطبيقها. قطر توسطت ونجحت مدعومة بجهد عربي جماعي.

لعل الدرس الذي يجب أن يتعلمه نجاد و«آياته» في طهران هو ان غريزة الكفاح من أجل البقاء لدى النظام السوري اقوى من الوفاء لحلفائه.