الدولة المريضة

TT

هل ابتدع «تفاهم» الدوحة جديدا على مستوى الخيال والأفكار والتفكير في لبنان، أم انه أنام الوحوش الضارية إلى أجل غير مسمى، أو مسمى ومؤجلا في مكان ما ؟

الدوحة هدأت من حماسة المتخاصمين، وأعادت بندقية حزب الله إلى جعبتها (هل نقول بشكل نهائي؟) لكن أزمة هذا البلد الصغير ـ الكبير، لم تحل «جوهريا» كما يلح دوما سمير جعجع، الذي لا يمل من التذكير بمسألة الدولة وسيادة لبنان ـ الدولة على أراضيه وقراراته كلها.

الحق انه ليس مطلوبا من تفاهم الدوحة أكثر من هذا، وهو ما جرى، لأن المشكلة الحقيقية هي لدى اللبنانيين، وليست لدى القطريين أو العرب، ما صنعه تفاهم الدوحة هو سوق اللبنانيين، بعدما تفاهمت القوى الإقليمية، إلى الهدوء وترك منطق السلاح والاختصام الحربي، رغم أن من بادر بالسلاح هو حزب الله وأشياعه، وهو من لا يزال يملك السلاح والقدرة على استخدامه من الناحية العملية.

ليس مطلوبا من الدوحة أن تخلق لبناناً آخر، غير طائفي ولا مذهبي ولا إقطاعي سياسي، لأن هذه العلة عميقة في الجسد اللبناني منذ القديم.

لا ندري كم سيصمد هذا التفاهم، والى متى، وان كنا نتمنى السلام الدائم، ولا ندري متى تقرر طهران أو سورية أن العمر الافتراضي لهذا الاتفاق قد انتهى، وتشعل الجبهة من جديد، إما بذريعة إسرائيل أو الأسرى أو الحكومة، أو «سلك تلفون مقطوع» لحزب الله.. هذا الإشعال مرهون بقرار إقليمي من طهران أو دمشق، خصوصا اننا نرى المنطقة تتحضر لحرب ما، وهذه المرة يبدو أن غيلان الحرب تركض نحو طهران الملالي.

لكن دعونا من الحديث عن الشأن السياسي الراهن، ومناورات المواجهة بين حلف دمشق ـ طهران وبقية العالم، ودور الأوراق اللبنانية والعراقية والفلسطينية في هذه اللعبة الإيرانية السورية...

لنتحدث عن داء عضال يسري في أوصال الجسد الثقافي اللبناني، الذي صار مقطعا مجهريا بامتياز يلخص كثيرا من علل هذه الأرض العربية الشاسعة.

قرأت تفاهم الدوحة فوجدته ينص، فيما ينص، على :«احترام سيادة الدولة في كافة المناطق اللبنانية، بحيث لا تكون هناك مناطق يلوذ اليها الفارون من وجه العدالة احتراما لسيادة القانون، وتقديم كل مَن يرتكب جرائم او مخالفات للقضاء اللبناني». الإشارة واضحة هنا إلى مربعات حزب الله الأمنية التي لا تحكمها الدولة بل هو.

هل هذا شيء جديد ؟ أعني التأكيد على بسط هيمنة الدولة ؟

أبدا، ففي اتفاق الطائف (عقد سنة 1989)، الذي يعده كثير من اللبنانيين «ميثاقا» لبنانيا جديدا، لأنه كان مقصورا على نواب البرلمان، نجد هذا النص: «تقوم حكومة الوفاق الوطني بوضع خطة أمنية مفصلة مدتها سنة، هدفها بسط سلطة الدولة اللبنانية تدريجياً على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية».

ليس هذا وحسب، بل ينص ميثاق الطائف صراحة على تجريد «كل» الميلشيات من سلاحها، خلال ستة أشهر من توقيعه، وهو ما لم يتم إلى الآن.

وينص الطائف على إلغاء الطائفية السياسية وعدم المحاصصة في المناصب على أساس طائفي، وإلغاء ذكر الديانة والطائفة في بطاقة الهوية.

الآن يأتي تفاهم الدوحة، بعد حوالي العقدين، ليعيد التحذير من الطائفية ويطالب الخصوم بالتعهد بعدم استخدام لغة التخوين والتحريض المذهبي والطائفي! فهل «عقل» لبنان يستعصي على فهم الخطر الطائفي والثقافة الطائفية ؟

غريب أمر هذا البلد، منه خرجت عقول مميزة في الفكر والفلسفة والفن والعلوم والإعلام، أثرت على العالم العربي كله، ولكن يبدو أن اللبناني خارج لبنان شيء، وداخله شيء آخر.

هذه العلة الطائفية، وكساح الدولة اللبنانية، ليسا أمرا حديثا، ولا هما بسبب تدخل الإيرانيين مع حزب الله، او السوريين مع امل، والبقية، او مساندة السعودية ومصر لقوى 14 آذار، بل هما نتيجة له !

الأمر أقدم من ذلك، هناك قابلية عالية للاستقواء بالطرف الخارجي لدى هذه الطائفة أو ذلك الزعيم ضد خصومه. وكان المعتاد أنه إذا تقوى طرف على البقية وفرض هيمنته يتحالف البقية ضده.

حينما غزا ابراهيم باشا ابن عزيز مصر محمد علي، بلاد الشام، تحالف مع أمير جبل لبنان القوي بشير الشهابي.. الغريب أن الأمير بشير الذي عده كثير من اللبنانيين، خصوصا المسيحيين، رمز العنفوان والدولة اللبنانية المبكرة، حينما أراد الاستعانة بالباشا ابراهيم من اجل فرض سلطة مركزية، انقض عليه بقية اللبنانيين، بالإيعاز من الدول الغربية المرتابة من قوة باشا مصر، في لحظة نادرة من لحظات الإجماع الطائفي اللبناني!

القصة باختصار، انه حينما حاول إبراهيم باشا في ثلاثينات القرن التاسع عشر أن يُدخل إلى لبنان والأقضية الجبلية الأخرى مبادئ حديثة في فرض الضرائب وجبايتها، وان يجرد أهلها من السلاح، وان يفرض التجنيد العام، كان الاستياء العام هو ردة فعل أهل لبنان، وبعدما انتصر ابراهيم باشا على العثمانيين في معركة «زنيب» وتقدم باتجاه الأناضول أثار ذعر الدول الغربية الكبرى، وقررت تحجيم الاندفاع المصري، فقام تحالف بينها لإرغام محمد علي وجيوشه على الانسحاب ليس من الأناضول فقط بل حتى من سورية، وكان احد التدابير المتخذة إمداد المستائين من وجوده في لبنان بالسلاح فقامت ضده وضد الأمير بشير الشهابي ثورة مسلحة، المثير فيها هو قيام تحالف طائفي بين طوائف لبنان، غرضه منع بشير وابراهيم باشا من فرض الحكم المركزي ونزع السلاح وتوحيده بيد السلطة.

وفي 1840 اجتمع زعماء الطوائف المختلفة في كنيسة مار الياس في انطلياس قرب بيروت وأقسموا على العمل ضد بشير الشهابي وابراهيم باشا، ووقعوا وثيقة هذا نصها، كما ينقلها ألبرت حوراني في كتابه: «الفكر العربي في عصر النهضة» (ص 71) عن المؤرخ اللبناني القديم مخايل مشاقة (ت 1888) :«انه يوم تاريخه، حضرنا إلى مار الياس انطلياس، نحن المذكورة أسماؤنا به بوجه العموم من دروز ونصارى ومتاولة (شيعة) وإسلام (سنة) المعروفين بجبل لبنان من كافة القرى وأقسمنا اليمين على مذبح القديس المرقوم بأننا لا نخون ولا نطابق بضر أحد منا كائنا من يكون، القول واحد والرأي واحد».

لا يمل ساسة لبنان وزعماؤه من التأكيد على النهج التوافقي في حكمه بين الطوائف، يقول ذلك عون وجعجع والجميل وجنبلاط والحريري وبري.. وحتى نصر الله. كما قاله من قبل بشير الجميل وكمال جنبلاط وشمعون، وقاله من قبل الخوري والصلح وكرامي.

توافق طوائف هل يعني تعريفا: دولة حديثة ؟ وهل لدينا دولة بالمعنى الحقيقي ؟ هل نحن إزاء دولة نهائية كاملة مكتملة، نهائية الهوية والرؤية والدور والمؤسسات ؟ أم «كل ذاك أباطيل وأسمار»؟!

الحديث هو عن لبنان، بحكم أنه المثال الساخن والحي على عطب الدولة، ولكن ماذا عن بقية الدول العربية، هل هي سالمة من الداء اللبناني؟ أم أن تحت الضلوع داء دويا؟

كلنا يتذكر كلمة «طز» من مرشد الاخوان المصري مهدي عاكف ضد «الدولة المصرية» وحديث العراقيين عن التقسيم والفيدراليات التي لا تقوم على أساس صلب، كما الغرب، بل على أرضية هشة لا تقوى على حمل الفيل الفيدرالي.. وكلنا نرى «دولة» السودان والصومال واليمن، نرى ذلك كله ونسأل : هل سلمت من الداء اللبناني، وإن بمفردات وأمثلة أخرى؟

الداء يضرب الجميع، لكنه يبدو ظاهرا في مواقع ومستترا في مواقع أخرى.

مرة أخرى : هل لدينا دولة عربية حقا بالمعنى العميق للكلمة في المفهوم والأساس الفكري والعقد الاجتماعي والسياسي، أم اننا نعيش في ثقافة ملوك الطوائف..؟

هذا ما يجب أن يبحث فيه الجميع، حتى لا تحجب شجرة الخلافات السطحية غابة الأمراض السياسية والثقافية .

[email protected]