إنما يولد الفن في الضوضاء!

TT

كان أمير الشعراء أحمد شوقي يحب أن يرى صحفياً معروفاً، لا داعي لذكر اسمه، حتى لا يغضب أولاده الصحفيون، وكان يحب أن يجلس إليه. فإذا سمعه يتكلم قال: العقل معطل. العقل لا يعمل بل لا عقل!

وكان يبحث عنه والناس يندهشون لذلك.

وكان لي صديق صحفي، يضيق به كل الناس إلا أنا. فأنا أراه مسلياً ومفيداً ومدهشاً. هو يأكل كثيراً وأفضل أطعمته اللحوم. ويأكلها كأنه ينتقم من الحيوانات التي أكلت البشر. وكان لا يتوقف عن الكلام وهو يأكل. بل إن الطعام يفتح شهيته على الكلام، والكلام يفتح شهيته على الطعام. وأنا لا أضيق بكل ذلك. ويندهش الأصدقاء كيف نجتمع نحن الاثنين معاً.. أنا شكل وهو شكل آخر. أو أنا شكل وهو لا شكل ولا شاكلة له. ولكني لا أرى ذلك.. فهو يتكلم طول الوقت، وأنا أتظاهر بأنني أسمعه، والحقيقة لا. وهو لا يلاحظ أنني سرحان وأن السرحان هو النعمة الكبرى التي وهبني الله إياها. فأنا أنتهز فرصة أن يقول ويجول ويصول وأسرح في موضوعات أخرى. وأحياناً أجدني مضطراً أن أؤكد له أنني أعي كل ما يقول. وأنا لا أعرف ما يقول وأنصرف عنه وأركز في موضوعات أخرى ويزيد التركيز كلما أسرف في الكلام. فأنا أقاومه، ومن غيره لا أجد مقاومة.

هل هي أنانية مني؟ هل هي قسوة عليه؟ هل هو سوء استخدام لصداقة بيننا؟ لم أفكر كثيراً في ذلك، حتى قرأت عن عبقري الموسيقى موتسارت، فقد كان يطلب من زوجته أن تقول وتحكي كل ما لديها من حكايات وهو يؤلف موسيقاه.. يكتب ويعزف وكانت تقول. وأحياناً كانت تكرر القصص، فيقول لها: سمعت هذه القصة قبل ذلك. يقولها رغم التركيز الشديد. وكانت إذا توقفت رجاها أن تقول، وأن تحاول أن تجدد، فكانت تأتي بكتاب وتقرأ، فيقول لها: أنت تركت صفحة. أعيدي القراءة.

وكان الفيلسوف سارتر يكتب في المقاهي وهو يخوض في صوت ضوضاء الجرسونات والأكواب والملاعق والسكاكين ودخان السجائر ورائحة الخمر. وكان شاعرنا كامل الشناوي لا يحلو له الكتابة إلا وسط ضوضاء الصحفيين حوله. فإذا سكتوا فزع ورجاهم ألا يكفوا عن الكلام فهو يتساند بالضوضاء وبغيرها يترنح!