لبنان بين أعراف التهدئة واستقطابات النزاع

TT

لا يكاد المراقبُ سواءٌ أكان لبنانياً أم غير لبناني يُصدّقُ ما تشهدُهُ الساحةُ السياسيةُ اللبنانية من هدوءٍ مشهودٍ بعد الأسابيع الثلاثة المتفجّرة(7-25 أيار) بالنزاعات العسكرية والأمنية والسياسية. فمنذ اتفاق الدَوحة، ثم تكليف الرئيس فؤاد السنيورة بتشكيل الوزارة مرةً ثانيةً، ينصرفُ السياسيون جميعاً إلى تحديد الحِصَص التي يريدونها أو يتمنَّونَها في مجلس الوزراء المقبل. ويعملُ الرئيس السنيورة بصبرٍ مستمعاً إلى مختلف المطالب مقسِّماً العملَ إلى مرحلتين: مرحلة الاتّفاق على توزيع الحقائب من ضمن اتّفاق الدوحة حول النِسَب والحِصَص. ثم مرحلة التوافُق على الأسماء لتولّي الحقائب حسبما نال كلّ فريقٍ سياسي.

ويكاد الفريق الشيعي من المعارضة أن يكونَ الأكثر معرفةً بما يريد ومن يريد. فحصتُهُ ستة وزراء ويبدو أنه اختار الحقائب والأشخاص، باستثناء تفصيلٍ أو تفصيلين، وإنما ينتظرُ وصولَ حليفه الجنرال عون إلى رأيٍ فيما يريدُ حقاً أو يمكنه الحصول عليه. ولا يخلو الأَمْرُ من تجاذُباتٍ ضمن فريق الأكثرية على الحقائب والأسماء، لكنه أيضاً تابعٌ إلى حدٍ بعيد لجدالات الجنرال عون بشأن النصيب الذي يستحقُّه. فللسنة أيضاً خمسة وزراء + رئيس الوزراء، وقد تلقّوا صدمةً كبرى في بيروت، كان من نتائجها العمل بكل سبيل إلى إعادة شيء من التوازن من طريق تكليف السنيورة من جديد، والمجيء بوزراء ذوي قوة تمثيلية، والإعداد من الآن للانتخابات النيابية المُقْبلة بقدر الإمكان. لكنّ التحدي الوزاري بالنسبة للسنة والشيعة والدروز ليس ضخماً ولا كبيراً؛ ذلك أنّ زعاماتهم مستقرة، ولا صراع ظاهراً عليها، ولا يُنتظرُ أن يحدُث ذلك الآن وحتّى الانتخابات.

ويختلف الأمر تماماً بالنسبة لسائر المسيحيين، وبخاصةٍ بالنسبة للجنرال عون. فهو يعتبر نفسه الزعيم المسيحي الرئيسي، ولذلك فهو يريد تمثيلاً معتبراً من سائر الطوائف المسيحية: الموارنة والأرثوذكس والكاثوليك والأرمن، وطبعاً من ضمن الحِصَص المقررة لسائر الطوائف في التشكيلة العتيدة. وهو عندما يُصرُّ على ذلك عينُهُ على الانتخابات النيابية المقبلة، وعينُهُ أيضاً على الوضْع الذي تمتّع به الرئيس الأسبق كميل شمعون عندما انتهت رئاستُهُ بنزاعٍ عام 1958، لكنه ظلّ حتى ظهور بشير الجميّل أواخِرَ السبعينات من القرن الماضي، الزعيمَ المسيحيَّ الرئيسيَّ أو الناخبَ الأول. يقول الجنرال عون إنه حقّق للمسيحيين قانون انتخابٍ مُلائم، لكنْ كذلك يقول خصومُه. وهو وإن كان يملكُ عدداً معتبراً من النواب في المجلس الحالي؛ فالواقعُ أن خصومَهُ المسيحيين من 14 آذار أو من المستقلّين، كانوا شديدي الحرص أيضاً على الدوائر الصُغرى في القانون العتيد، إلى حدود القول بالدائرة الفردية من جانب البطرك صفير لو أمكن. وقد تحقّق ذاك الإنجاز بالفعل نتيجةَ الخلاف الشيعي/ السني، وسعْي الطرفين الكبيرين كلٌّ لإرضاء حلفائه من المسيحيين من طريق المُضيّ إلى الحدود القُصوى لتصغير الدوائر. ولولا المصلحةُ الانتخابيةُ التي استجدّتْ للجنرال عون وحلفاء سورية من المسيحيين، لصارت الدوائر أصغر وأصغر. ففي مكانين أو ثلاثة بقيت وحداتٌ انتخابيةٌ متوسطة الحجم لوجود أقلياتٍ مسيحيةٍ فيها إلى جانب الأكثرية الشيعية. لكنّ الانقسام المسيحيَّ لا يقتصر على الاصطفاف بين محورين؛ بل هناك العنصر الثالث أو نقطة التوازن، التي غابت طويلاً، والتي يبدو كلٌّ من البطرك صفير والنائب والوزير السابق ميشال المُرّ مراهنَين عليها، لتقوية الوضع المسيحي وتجديد الدور المسيحي. والمعنيُّ بذلك رئاسة الجمهورية، التي جرى إضعافُها أيام الوصاية السورية، ثم غابت أيام التمديد اللحودي، وظهور أكثرية نيابية ضِدَّها. جاء الجنرال سليمان بتوافُقٍ لبنانيٍ وعربيٍ ودوليٍ، ما استطاع الجنرال عون الوقوفَ في وجهه، لكنه الآن لا يريد الاعتراف بنتائجه، ومن ضمنها أنّ الحقيبة السيادية التي ستُعطى للموارنة (وزارة الداخلية) هي من حصّة رئيس الجمهورية الجديد. والجنرال عون يتجاوزُ ذلك للقول: إذن آخُذُ الحقيبةَ السيادية الأُخرى التي للأرثوذكس، وهي عند ميشال المر، بيد ابنه إلياس المُرّ (وزارة الدفاع)، باعتبار أبو الياس الزعيم السياسي للأرثوذكس، وبسبب توافُقه مع رئيس الجمهورية الجديد ومع البطرك صفير.

هذه الجدالات والنقاشات، التي تبدو بحثاً عن الحِصَص والمكاسب، هي أكثر جديةً في الواقع. فالنظام اللبناني الذي اهتزّ في السنوات الأخيرة وترنَّح مرتين على الأقلّ (اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وحرب تموز)، ترنَّح مرةً ثالثةً على وقْع عملية اجتياح بيروت. ولذا فإنّ الحِصَصَ في مجلس الوزراء، واستكشاف دور الرئيس الجديد، كلُّ ذلك هو بحثٌ حثيثٌ عن مرتكزات جديدة، ونقاط للتوازُن والاستقرار. ويعتقدُ الجميعُ أنّ الانتخابات المقبلة، يمكنُ أن تحسمَ الوضْعَ لعقدٍ مُقْبل، وأنّ الحكومة التي يُرادُ تشكيلُها الآن هي المقدّمةُ لذلك، ولذا لا بُدَّ من القوةِ فيها.

والواقعُ أنّ كلَّ تلك النقاشات والتجاذُبات صحيّةٌ وواعدةٌ، لأنها تتجنَّبُ لغة السلاح، وقد انخفض سقفُ التوتُّرات، وانصرف الجميع إلى هذا النشاط السلْمي ذي الشقَّين: الانطلاق إلى وسط بيروت، والمجيء إلى السراي من جانب السياسيين للبحث في تشكيل الحكومة. وأريد أن أضيف هنا نشاطاً ثالثاً غاب منذ زمن طويل: الاحتفاء برئيس الجمهورية الجديد من جانب العرب والأوروبيين. وسيزورُ لبنان الرئيس الفرنسي ساركوزي لهذا الغرض خلال ثلاثة أيام. ويرغبُ كثيرون (ومن بينهم رئيس الجمهورية الجديد) أن تتشكل الحكومةُ قبل مجيء الرئيس الفرنسي؛ لكنّ ذلك لا يبدو مرجَّحاً وسط استمرار الكلام في الحصص والأحجام، ولدى المسيحيين بالدرجة الأولى.

لقد كشفت الأزمةُ الأخيرةُ الناجمةُ عن الدخول المسلَّح إلى بيروت عن أمرين: الفجوة الواسعة بين الشيعة والسنة، التي كانت سياسية الطابع، واتخذت أبعاداً مذهبيةً بارزة - واستمرار التجاذُب الإقليمي على لبنان، والمشرق العربي. وقد أثار ذلك التوجسات والمخاوف لدى العرب والأوروبيين، فسعَوا بكلّ جَهد لإطفاء الحريق، وانتخاب الرئيس الذي تأخر انتخابه ستة أشهُر، لحيلولة المعارضة اللبنانية دون ذلك. وقد صوَّرت المعارضةُ الأمر أخيراً أنها إنما فعلتْ ذلك لتحقيق مطلبيها السياسيين: حكومة الثلث المعطِّل، وقانون الانتخاب؛ فلمّا جرى التوافُق عليهما بالوساطة القَطَرية/ العربية، انفتح المجلسُ النيابيُّ المقفل لانتخاب الرئيس. وإذا كان ذلك صحيحاً ودقيقاً؛ فإنه يبعثُ الأمل على الوصول إلى المزيد من ركائز الاستقرار؛ لكنْ طبعاً دون استخدامٍ للقوة العسكرية. ولذا فقد يكونُ من المُلائم الآن الاتجاه للعمل الداخلي، وبالتحديد لتقوية رئاسة الجمهورية من طريق ترؤّسها للحوار الوطني، والعودة للتلاقي جميعاً بمجلس الوزراء ليعود المركز الوحيد للقرار في شتى المجالات. وإذا عملت المؤسساتُ الدستوريةُ باستقلالية وتعاوُن، وظلّ الناس يتدفقون على وسط بيروت؛ فلا شكّ أنّ الاستقرار سيتدعَّم حتى لو كانت الأوضاعُ الإقليميةُ عَسيرةً ومُقْلقة.

فليس معروفاً حتى الآن، ما ستكون عليه آثارُ المفاوضات السورية/ الإسرائيلية بالوساطة والحماية التركية على الوضع بلبنان. كما أنه ليس معروفاً كي تتطور الأمورُ في غزّة وسط تراجُع احتمالات التهدئة، وتراجُع التقدم في المفاوضات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل. ثم إنه ليس معروفاً أيضاً كيف ستردُّ إيران على ضرب مقتدى الصدر بالعراق، والأهمّ كيف يتطور النزاع بشأن النووي، هل باتجاه التسوية أم باتّجاه المزيد من التأزُّم؟!

وكلُّ تلك أمورٌ لا تظهر على السطح في التجاذُبات السياسية بشأن تشكيل الحكومة في لبنان. وإنما الذي يظهر هذا الاهتمام بتثبيت المواقع والأقدام، كما الاهتمام من جانب الفُرقاء كلٌّ بتغيير صورته في أذهان المواطنين من طريق التهدئة في الإعلام، طبعاً باستثناء الذين لا يريدون أن ينسوا ما حدث في بيروت ولبيروت، وهؤلاء يعرفون أنّ النتائج الاجتماعية والسياسية لتلك الأحداث ستستمر تداعياتُها على مدى الأعوام القادمة.