وهذا هو السحر الحلال!

TT

الموسيقى والباليه والمعارض الفنية كلها فنون من الصمت. فأنت ترى وتنصت ولا تقول شيئاً. إنها أروع حالات الصمت والتأمل. وقد تدربت وتعرفت طويلا على هذه الفنون. ولكن أعظم الفنون التي تعرفت وسعدت بها هي: القراءة.. فالقراءة هي أن تصغي لمن يقول. والذي يقول هو الآخر ليس له صوت. إنها المعاني تتدفق من عينيك إلى دماغك، وأنت سعيد بكل ذلك. وقد تعلمت وأحنيت رأسي طويلا سعيدا ليلا ونهارا، إيمانا مني بأن الذي أقرأه أروع من الذي أكتبه. وهذه فرصتي في أن أتعلم وأن أحترم من هو أكبر وأعظم!

وكنت أستدرج الكثير من أصدقائي إلى حفلات الباليه في أوبرا القاهرة القديمة. وكانت دار الأوبرا فخمة أبهة تمشي فيها على سجاجيد كأنها قطع من السحاب. فأنت لا تمشي على الأرض وإنما تطير بين الأرض والسماء، وكذلك المقاعد كأنها هي الأخرى قطع من الضباب والأضواء خافتة ناعمة. تريدك أن يكون صوتك خافتاً وأعصابك هادئة ولا يهم ما الذي ترى وإنما المهم أن تجد مكانك وأن تلزمه. ولا كلمة منك ولا كلمة من أحد. وأن توفر جهدك وطاقتك وتختزنها جميعاً في أذنيك، فأنت جئت لتسمع أروع ما أبدع الفنان الغربي. ولست وحدك.. فكل الذين وراءك وأمامك وعن يمينك ويسارك أشباح تمشي بلا صوت. وتتحرك بلا همس. وتستقر في مقاعدها التي فقدت صوتها ولونها. فكل شيء من أجل شيء واحد حالا سوف تراه على المسرح.. وتنفتح ستارة المسرح ناعمة هادئة وتنطفئ الأنوار، وتضاء هناك بعيداً في رقة موسيقية ساحرة. ثم لا تجد نفسك. لقد سحرتك الأنغام كأنها ملايين الطيور ترفرف بك على أجنحتها لتطير بك إلى فوق.. إلى حيث لا تدري. ويسعدك أنك لا تدري. فأنت تعلم ذلك ومن أجل هذه اللحظات التي هي في حساب الزمن ساعات جئت لتتحول من جسمك إلى شبح ومن شبح إلى فكرة.. إلى نغمة في سيمفونية أو أوبرا أو باليه، وهذه هي المعجزة: كيف تكون ولا تكون ثم تعيدك إلى ما كنت عليه إلى قدميك وذراعيك وإلى الشارع وإلى البيت بعد أن تم شفاؤك.. كيف؟ إنها عظمة الفنانين الذين أبدعوا والذين رسموا وأقاموا الديكور ووزعوا الأضواء وأقاموا الستائر والذين سحروك.

صدق رسول الله: إن من البيان لسحرا.. وهذا هو السحر الحلال!