الدولة في لبنان: أزمة مفهوم أم هيبة؟

TT

كل شيء في لبنان يخضع إلى تحويرات خاصة : المفاهيم والصيغ والثوابت والمتغيرات. إنها تحويرات مبررة ومفهومة وذات علاقة بخصوصية الوضع اللبناني ككل وبالتنوع الطائفي، الذي ينتج آليا تنوعا في المواقف والموازين والرؤى، الشيء الذي ينعكس في المشهد السياسي فيتحول التنوع إلى اختلافات ومنها إلى خلافات.

وإذا كان الحياد مسألة شبه مستحيلة بالنسبة إلى اللبنانيين، فإن غيرهم ربما يستطيع أن يمارس بعضا منه لأن الحياد وحده يُمكننا من مقاربة المعركة اللبنانية. ذلك أن ما حصل في لبنان، علاوة على خطورته ورمزيته، بالإمكان اختزاله فكريا في مسألة واحدة أساسية، هي أزمة تعريف الدولة في لبنان، وأزمة رسم مجالها الحيوي وجغرافيتها على مستوى القرار والحكم. فالدولة التي عرّفها ماكس فيبر بأنها وحدها المخولة باستخدام ما أسماه بالعنف المشروع وأنها تستأثر بممارسة القوة بدون شريك، هذا التعريف «الفيبري» إن جاز التعبير لا يستقيم في الشأن اللبناني.

طبعاً، ساهم تاريخ لبنان في حدوث أزمة تعريف الدولة فيه واتضحت بالخصوص بعد التحرير عام 2000 ذلك أنه عندما بدأت الدولة تتشكل فعليا، وتنسج على منوال مفهوم الدولة نظريا، أظهر الواقع أن المشروعية التي اكتسبها «حزب الله» منحته حضورا طاغيا أكثر من اللزوم إلى درجة أنه أصبح أكبر من حزب سياسي مسلح وأقرب ما يكون إلى خصائص الدولة ونفوذها، فكانت النتيجة وجود دولة داخل دولة، وهو ما لا تستطيع نظريا وفعليا أن تستوعبه وتتحمله أي دولة.

ولكن، هل يعني هذا أن نعود إلى فلاسفة الدولة وتطبيق النموذج النظري السياسي الفلسفي الأقرب إلى لبنان ؟

طبعاً ليس هذا ما يعوز اللبنانيين بل المطلوب منهم ابتكار تعريف خاص بهم دون سواهم للدولة وصياغة ميثاق لا يلزم غيرهم، وهذه هي المعجزة اللبنانية المنتظرة. ذلك أنه من دون التفكير في صياغة مفهوم للدولة يستوعب «حزب الله» فإن كل الحلول التي يمكن أن تؤخذ بدافع وساطة عربية، أو غير ذلك، هي في جوهرها حلول تؤجل أزمات قادمة.

وفي الحقيقة فإن مشروع ابتكار تعريف للدولة والصلاحيات وإن يُلقى على عاتق الفرقاء السياسيين في لبنان جميعا، فإن التوفيق في هذه المسألة المركزية يتحمل نصيب الأسد فيها «حزب الله». فالمطلوب منه أن يشارك هواجس قوى الأكثرية في مسألة أزمة تعريف الدولة في لبنان وأن يفكر داخل قياداته في هذه الإشكالية بشكل يتجاوز فيه «حزب الله» المصلحة الضيقة، أي أن يطرح قادة هذا الحزب هواجس خصومهم على الطاولة وأن يتعاطوا معها بعيدا عن منطق الأقوى والأضعف والمنتصر والمنهزم والشرعي وغير الشرعي لأنها ذهنية قليلة الجدوى في النموذج اللبناني تحديدا.

ولا شك في أن انفتاح «حزب الله» على هواجس شركائه في لبنان يستدعي منه الانطلاق من معطى واقعي يقول إنه قد أصبح عبئا على الدولة، وبالتالي فإن مفتاح حل أزمة الدولة في لبنان يتمثل في قيام «حزب الله» بنقد ذاتي موضوعي يجعله يحلل الأمور بطريقة أكثر واقعية. ناهيك من أنه بالحوار يستطيع «حزب الله» أن يضمن لقضيته امتيازات لا يحظى بها أي حزب آخر، بشرط أن لا تكون على حساب الدولة في لبنان، وكل باقي الخلافات ستتحول بعد ابتكار تعريف للدولة إلى تفاصيل قابلة للمعالجة.

[email protected]