اتفاقية تكافؤ لا إذعان

TT

لا شك أن جميع العراقيين يرفضون اتفاقية مع الولايات المتحدة لا تقر بالسيادة الكاملة للعراقيين في إدارة شؤون بلدهم وعلاقاته الداخلية والخارجية والسيطرة الكاملة على سمائهِِ ومياههِ وأرضهِ ومواردهِ كاملةً. وفي نفس الوقت فإنه من المنطقي أن يتلمس العراقيون فرصة دراسة ما يمكن أن يحقق لهم مستقبلاً على ضوء ما يعتقدون بأنه يتناسب وحاجتهم وأمنهم بعيداً عن الشد والجذب الذي ابتدأ بأطراف خارجية، ثم انتقل إلى أطراف داخلية توجه أشد الهجوم لاتفاقية لم تكتمل ملامحها بعد، ولا تزال في مراحل مبكرة من التوصل لرؤية مشتركة بين الطرفين العراقي والأمريكي.

وهناك تباعد ليس قليلا بين رؤية عراقية إطارها سيادة كاملة لدولة تتمتع بكامل الاستقلال وبين رؤية أمريكية تُعطي لنفسها حق اعتقال العراقيين في وطنهم لأسباب تتعلق بفهمها للإرهاب، وتتحرك قواتها بحرية واسعة وتتمتع بحصانة لجنودها حتى عندما يكونوا خارج المهام الأمنية، بل وتمتد حتى للمقاولين والمتعهدين معها، وأجواء مفتوحة وغير مقيدة وكذلك إعفاءات ضريبية ومالية، حيث لا تزال الولايات المتحدة تنظر للعراق على أنه بلد غير مستقر ويتعرض لتهديدٍ إرهابي وتهديدات من دول الجوار بعضٌ منها في صراع وخصام مع الولايات المتحدة وبالتالي تريد أن تأخذ حرية أكبر للحركة والاعتقال والملاحقة والحصانات وسماء غير مقيدة للتعامل مع هذا التهديد، مقارنة باتفاقيات مع بلدان لم تكن فيها تهديدات مماثلة.

كل ذلك مطلوب تنظيمه في اتفاقية تنظيم وجود القوات والتي يطلق عليها اختصاراً (صوفا) مع اتفاقية إطارية تنظم باقي المحاور السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية، لا يرغب الجانب الأمريكي أن تأخذ طريقها للتصديق من قبل مجلس النواب الأمريكي (الكونغرس)، لأسباب فنية وايضاً لاعتبارات انتخابية أمريكية وداخلية، مما يثير السؤال عند الجانب العراقي في مدى الإلزام والإلتزام من الجانب الأمريكي.

لأول مرة يبدأ العراقيون، منذ أن غزا صدام حسين الكويت، التفاوض على اتفاق يملكون رفضه أو تعديله، حيث وُضع العراق بعد تلك المغامرة تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة، باعتباره مهدداً للأمن والسلم ومتمرداً على القرارات الدولية وبالتالي فقد قدرته على التصرف بسمائه ومياهه وأرضه وأمواله وكل ممتلكاته، ولم يعد بلداً يمتلك سيادته. لذلك فهناك تحدٍ كبير أمام صانعي القرار في العراق الآن، حيث أن هناك فرصة للتحرر من هذه القيود التي وفر البعض منها حصانة وحماية لأموال العراق، التي لا تستطيع التحرك بحرية إلاّ عبر قناة واحدة تمت حمايتها بقرار أممي وأيضاً بقرار من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ضد دعاوى وشكاوى وأوامر حجز من أشخاص ودول تدعي أنها تضررت نتيجة أفعال نظام صدام حسين.

هذه القيود والقرارات والحصانات ستنتهي في منتصف ليل 31 ديسمبر 2008 ويحتاج العراق لأن يستبدلها بإطار ينظم علاقاته وما يتبقى من جنود للقوات الدولية وبالذات الأمريكية منها بما يتناسب والمطالب الوطنية العراقية المشروعة، وأيضا رؤية القوى السياسية التي تتنوع في الرؤية والنظرة لهذا الإطار، والذي يجب ألا يغيب عن بال المفاوض الأمريكي، وهو أن العراق الآن فيه تركيبة جديدة لم تخبرها أمريكا مسبقاً، فلا هو بوسنة وهرسك ولا هو دولة قطر ولا هو عراق صدام حسين الذي كان يمكن أن يكون الحديث فيه مع جهة واحدة تمتلك مفاتيح القرار. فالوضع في العراق شديد التعقيد ولا أحد يجرؤ على القبول أو الترويج لاتفاق يمنح القوات الأمريكية كل هذه الامتيازات التي تُقرأ في العراق بأنها تنتقص من سيادة البلد بصورة واضحة وليس من الحكمة إخضاع الأطراف الحاكمة لضغوط لن تُفلح في تمرير هكذا اتفاق.

الأمر الآخر المهم في هذا الموضوع هو الأصوات الغريبة التي يطلقها البعض من خارج الحدود، والتي تحرّض العراقيين على رفض الاتفاقية لاعتبارات ليس لها علاقة بمصالح العراقيين في تجرؤ واضح على التدخل السافر. ولو أردنا أن نبدي ملاحظاتنا على الكثير من سلوك هذه الدول في شؤونهم الداخلية فلدينا الكثير، لكننا نتجنب ذلك أملاً في أن يتجنب الآخرون هذا التجرؤ وهذا الانتهاك وهذا التحريض، الذي أتذكر جزءا منه عندما صرّح أحد أئمة الجمعة المعروفين في دولة مجاورة قبل 3 أعوام بأنه يفاضل بين أن يكون العراق بدون وجود أمريكي على تضحية وموت (والذي يسميه شهادة) 10 ملايين عراقي.

لا تزال المفاوضات تطرح أسئلة محددة من الجانبين، إجاباتها لا تمثل رأياً نهائياً وليست نهاية المطاف، بل إن هناك تفاصيل متشعبة وعديدة منها الفني والسياسي والعسكري والقانوني لها أبعاد اقتصادية ومالية والكثير الكثير مما يحتاج الى أناة وصبر وقوة لا بد للمفاوض العراقي أن يتسلح بها، وقد تكون الأصوات المعارضة للاتفاقية التي تنطلق من الداخل والتي ليست صدى لأصوات الخارج، هي قوة وورقة من أوراق الضغط بيد المفاوض العراقي لابد من ترشيدها وتنسيقها بدلاً من أن تتحول الى اتهامات وفوضى تثبط من الجهد العام ومن المناسب أن لا تُخضع هذه القضية لمزايدات وضغوط تشوش الرؤية ومصلحة العراق وشعبه ومستقبل علاقاته في محيطيه الإقليمي والدولي أيضاً.

آخر المطاف، سيتم وضع كل هذه التحديات ومخاطرها وفوائد الاتفاقية التي ستفتح آفاق تعاون مع دولة عظمى فيها كل مقومات القوة والتقدم لم يستفد منها العراق بعد في المجال المدني، والذي هو بأمس الحاجة إليه لبناء بلد محطم وخرج من تحت الأنقاض وسيكون الإطار محدداً بما يلي: «لن تكون هناك بنود سرية ولن تتم المساومة على سيادة العراق».

* الناطق الرسمي

للحكومة العراقية