أردوغان في بيت «اليك»

TT

هي ليست المرة الأولى التي يقف فيها رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية الاسلامي أمام المحاكم والمؤسسات القضائية التركية ليدافع عن ميوله وتوجهاته الفكرية والعقيدية، ويرد التهم عن الحركة السياسية التي يقودها منذ 6 سنوات تحت شعار التجديد والتحديث، فهو يعرف تماما أنها مواجهة مفتوحة مع القيادات العلمانية والاتاتوركية المتشددة التي تضم في صفوفها حشدا من الاعلاميين والسياسيين والعسكريين على السواء.

لكنه هذه المرة في مأزق سياسي قانوني كان يراهن على استحالة وقوعه ويرفض دائما طرحه ومناقشته واتخاذ قرارات البدائل لمواجهته. كيف ستستخف المحكمة الدستورية (التي عين الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سزر غالبية قضاتها) بقرارات وخيارات 410 أصوات من أصل 550 في المجلس النيابي التركي أقروا قانون رفع حظر دخول المحجبات الى الجامعات استجابة لرغبة حوالي 75 في المائة من أصوات المشاركين في انتخابات الصيف المنصرم؟ هل يعقل أن تقول هذه المؤسسة الدستورية لا لما يريده ويدعمه وتطالب به الغالبية في تركيا اليوم متجاهلة رغبة الملايين في ايصال أردوغان وحزبه الى موقع القيادة في بلد تصعب فيه ممارسة العمل السياسي، خصوصا على أحزاب تحمل صفة الاسلامية عانت الكثير بسبب هذه التسمية.

أردوغان اتهم وحوكم وسجن لكنه ما لبث أن عاد الى قواعده وأنصاره أقوى مما كان عليه في السابق. لكن الكثيرين يرون أن الوضع يختلف عن السابق هذه المرة. فالمؤسسة العسكرية رجحت أن تظل خارج اللعبة، وهي تركت المواجهة الى الكثير من المؤسسات التعليمية والقضائية والسياسية المتمركزة في قلب النظام تفرض على حزب العدالة أن يراجع حساباته وسياساته وتضعه أمام امتحان في بالغ الصعوبة. فالمحكمة الدستورية تجهز نفسها لدرس طلب المدعي العام حظر حزب أردوغان ومنع معظم قياداته من مزاولة السياسة، وهي ستعطي رأيها ثانيا في موضوع مستقبل رئيس الجمهورية التركية عبد الله غل الوارد اسمه على لائحة المطالب بحظرهم سياسياً.

هي بإيجاز عملية تصفية حسابات قديمة بين جناحين وتيارين واتجاهين في البلاد: جماعات من العلمانيين المتشددين يتحركون تحت راية حماية قلاع الأتاتوركية والدولة الحديثة وفئة من الاسلاميين المدعومين من النخب الليبرالية الذين يرفعون شعار التغيير والتجديد على كافة المستويات يقودها «العدالة» الذي قبل التحدي كونه يعرف منذ البداية أن الحقبة الثانية من حكمه ستحمل الكثير من المفاجآت، وأن الطريق ستكون مزروعة بالحفر والمطبات والالغام. أردوغان وحزبه أمام خيارين في هذه اللحظة احلاهما مر.. تنفيذ تعهداته السياسية الاصلاحية التي قطعها على نفسه أمام قواعده الاسلامية مما يعني الاقتراب من الخطوط الحمراء الواجب عدم المساس بها، والتي تطال مباشرة أهم المواقع والقضايا الحساسة في بناء النظام وأسسه أو الهدنة والتراجع عن الخطوات التي بدأها منذ أشهر منفردا، وفي مقدمتها إعداد دستور جديد للبلاد ومواصلة الحرب على أوكار النحل والدبابير التي تتمركز فيها جماعات تقول إنها حددت لنفسها مسؤولية حماية النظام والدولة ضمن شبكة ارتباط وتواصل سري معقد أفزعت الكثيرين على ما يبدو.

ما بين أيدينا من أدلة ومعلومات يشير الى أن أردوغان القلق على المستقبل والمصير، والمنزعج من أصوات تطالبه بالمزيد من الليونة والمرونة والتراجع أمام الحملات والهجمات التي تشن على الحزب، لن يستمر في سياسة المراوغة والتطويل هذه المرة من أجل تجنب الضربات كما فعل في السابق بل سيشعلها حرباً مفتوحة قد تقود الى انتخابات نيابية مبكرة أو الاسراع باعلان اسم الحزب الاسلامي الجديد الرديف لحزب العدالة في حال إغلاقه، وكل ذلك يتم باسم الدفاع عن الديمقراطية والحريات واحترام خيار الغالبية التي ارتأت تسليم دفة القيادة الى حزب العدالة.

أردوغان لن يكتفيَّ بهذا القدر من استراتيجية تقديم مسألة اغلاق حزبه وكأنها قضية ثانوية فرعية أمام القضايا الكبرى المحيطة بتركيا، وهو لن يكتفي أيضا بخيار التطرية والليونة والدعوات لابقاء باب الحوار مفتوحا حتى ولو كان ذلك من جانب واحد مع قيادة المعارضة التي يمثلها حزب الشعب الجمهوري بل سيسارع الى تذكير الجميع بحقيقة ناصعة البياض أن من يستخف بالقوة البرلمانية للحزب عليه أن يستعد لانتخابات عاجلة تنهي حالة المماطلة والتطويل في قبول المتغيرات وهضم الوضع السياسي الاجتماعي الجديد الذي تصر أقلية في المجلس النيابي وخارجه على تعطيل تقدم مساره وتجاهل أصوات الاكثرية في تركيا.

كلام أردوغان الاخير الموجه الى تجار التخويف والتحريض والمراهنين على اشعال الفتن ودعوات دولت بهشلي رئيس حزب الحركة القومية اليميني المتشدد للتنبه الى الهزات التي تسبق الزلزال الكبير مؤشرات على أن الداخل التركي مقبل على المزيد من الخضات السياسية، مركز الثقل فيها هو موضوع العلمنة وقبول الآخر بكل خصائصه ومواصفاته وطروحاته دون أن نغفل طبعا مصير ملف المستقبل السياسي لرئيس الجمهورية عبد الله غل، فهو حتما سيقول شيئا أمام هذه الحالة الغريبة العجيبة، فهل يعقل أن تحاكم دولة رئيس جمهوريتها بتهم تهديد النظام وأسس الدولة، فيما هو اليوم يدير شؤون البلاد ويؤتمن على أهم وأكبر أسرارها؟

رجب طيب أردوغان هو في موقف لا يحسد عليه اطلاقا، حركته السياسية مهددة بالتفتت والزوال وموضوع منعه من ممارسة العمل السياسي، وهو في ذروة العطاء عاد الى الواجهة بعد سنوات من التضحيات. ونسبة 47 في المائة من الناخبين تنتظر الاشارة التي تريحها وتعيد اليها بوادر التفاؤل والامل والطمأنينة التي رأتها في شخصية أردوغان ومواقفه وطروحاته. الكاتب الاسلامي المعروف تامير قورقماز يحذرنا من مخاطر ما يجري بقوله إنه اذا ما كان البعض يصر على تجاهل حقيقة وجود قوة شعبية وسياسية جديدة في تركيا لها تطلعاتها ومطالبها، فإننا ننصحه بمشاهدة فيلم «يقظة شعب» الذي سيبدأ عرضه قريبا في معظم دور السينما التركية.

* كاتب وأكاديمي تركي