«أبو هاون».. صفحة العلاقات الجديدة بين باريس وبغداد

TT

في مقالة تثير الاستغراب بقدر ما تطرح التساؤل عن سبب توقيت نشرها في هذا الوقت الذي بدأ فيه العراق يتعافى سياسيا وأمنيا واقتصاديا عاب الكاتب العراقي الصديق رشيد الخيون في جريدة «الشرق الاوسط» اللندنية على وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير استهلال رحلته الاخيرة الى العراق بالحلول في مدينة الناصرية وزيارة احدى قراها «ابو هاون» واحتفاء نائب الرئيس العراقي عادل عبد المهدي به في قريته هذه.

ان زيارة الضيف الفرنسي شكلت فتحا جديدا في علاقات دولة عارضت استخدام القوة في إسقاط النظام العراقي السابق وقاطعت النظام الجديد ثم جاء المسؤول الفرنسي ليؤكد دعمه العراقيين في انجاح عمليتهم السياسية واعادة اعمار بلدهم وحتى تزويد جيشه المتصدي للارهاب دفاعا عن مواطنيه بأسلحة متطورة .

اما مخالفة كوشنير للأعراف الدبلوماسية باستهلال زيارته للعراق بالحلول في الناصرية، احدى مدن العراق الجنوبية التي قادت انتفاضات دامية ضد النظام السابق وتحملت من ظلمه وإهماله الكثير، فلأن المقال لا يرى أن فرنسا ستباشر من هذه المدينة بتنفيذ مشاريع سياحية في أول استهلال لدعم سياسي وعسكري واعماري فرنسي للعراق الذي هو احوج ما يكون الى ذلك في ظروفه الحالية التي تضغط عليه من مختلف الاتجاهات وحتى من بعض حلفائه.

ولم يكتف كوشنير بذلك بل قام بجولة في مدينة أور الأثرية التي تعود إلى العصر السومري وموقعها التاريخي مسقط رأس ابي الأنبياء إبراهيم جنوب غربي الناصرية.. كما اجتمع مع عدد كبير من مسؤولي جامعة ذي قار وشيوخ المحافظة ورجال اعمالها والمسؤولين العراقيين، مؤكدا ان زيارته هي استهلال لبدء علاقات بين البلدين على جميع الاصعدة، وهو ما دفع بكوشنير الى التعبير عن سعادته للقاء عبد المهدي القيادي في المجلس الإسلامي الأعلى حاليا، والذي عاش بمنفاه في فرنسا سنوات عدة وحصل على شهادات عليا في الاقتصاد والعلوم السياسية ويتكلم الفرنسية بطلاقة.

ومن «ابو هاون» التي فتحت صفحة جديدة في علاقات باريس مع بغداد انتقل كوشنير الى العاصمة العراقية ليلتقي بقادتها، ثم منها الى اربيل ليفتتح فيها قنصلية بلاده هناك، ويعلن عن فتح اخرى في البصرة قريبا.

ويبدو ان المقال لم يدرك معنى هذه الحقائق والتطورات التي حصلت في مشهد العلاقات الفرنسية العراقية فانهال باتهامات لا ترتكز الى اسس علمية، معيبا على عبد المهدي تنقله قبل اربعة عقود بين البعثية والشيوعية ثم الاسلامية، وهي مزية تحسب لصالح عبد المهدي وليس عليه، فهذا التنقل دليل انفتاح على الافكار والتفاعل معها من دون تحجر او إصرار على الخطأ الذي عانى العراق من الكثيرين من كبار مسؤوليه الذين اصروا على خطاياهم وقادوا بلدهم الى نكبات كارثية. وليس خافيا تاريخيا ان هذا التنقل شكل سمة الكثير من المفكرين والشخصيات التي عاصرت عقد الستينيات في شبابها حيث كانت هذه الفترة قد اكتسحتها الأفكار اليسارية ثم عاد بعدها الشباب الى الإيمان بالمعتقد الذي ولدوا عليه، وبالاضافة ان هذه التنقلات كانت من معارضة الى معارضة اعنف للنظام وليس من معارضة من اجل السلطة.

ومن هناك فقد كان لعبد المهدي دور بارز في كبح اندفاعات الكثير من الاسلاميين بمختلف طوائفهم على مدى الاربع سنوات الماضية مجنبا بلده الوقوع في العديد من أخطائهم وهو ما افرز للعراق قائدا مدنيا معتدلا لديه الاستعداد لتعزيز العلاقات مع مختلف دول المنطقة والعالم وتشهد على ذلك نجاحات زياراته المتعددة للكثير منها. وبالنسبة لعادل عبد المهدي فإن وصوله الى منصب كبير لا يعني مفاجأة له، فوالده كان قد شارك في ثورة العشرين واصبح وزيرا في عهد الملك فيصل الاول في عشرينات القرن الماضي. ولا ينكر عبد المهدي انه تأثر بالافكار القومية والاشتراكية العربية ولكنه ترك حزب البعث بعد ان تسلم السلطة العراق عام 1963 وبدأ معه القتل والسجن والتشريد للمعارضين السياسيين. وقد تعرض للسجن والتعذيب وقطع اجزاء من اللحم من الفخذ باستخدام الكلابتين (البلايزر) وعندما عاد الحزب للمرة الثانية لحكم العراق عام 1968 وعادت معه الفترة المرعبة هرب عبد المهدي بعد ان تأكد بانه اصبح هدفا للإعدام الذي تمارسه سلطة صدام. ومن هنا لا يمكن لأحد ان يتفق فيما قيل بأن عبد المهدي قد عارض من اجل «ابو هاون» لان هاجسه كان وما زال هو العراق كله الذي تعرض الى الاعدام من اجله .

لقد استقر عبد المهدي في فرنسا ودرس الاقتصاد وحصل على الماجستير في العلوم السياسية والاقتصاد واطلع على الفكر الماركسي وهو يعلق بانه ورغم سنوات العمل اليساري إلا انه لم يتخل عن إيمانه الديني ويقول «لم نكن من اؤلئك الناس الذين يتحدون ويدحضون دينهم واهلهم». لقد عرف عبد المهدي بدراساته الاقتصادية وعمل في عدد من مراكز البحوث الفرنسية آخرها رئيسا للمعهد الفرنسي للدراسات الإسلامية، كما ترأس تحرير عدد من الصحف والمجلات باللغتين العربية والفرنسية ومنها اهم مجلات الفلسفة (ينابيع الحكمة Spring Mind ) باللغة الفرنسية وقبلها مجلة «المنتقى» باللغات العربية والفرنسية والانكليزية، فضلا عن تأليفه للعديد من الكتب.

ولعبد المهدي آراء وطنية ثاقبة في الوضع العراقي، فهو يقول عن المخاوف الاقليمية من قيام جمهورية اسلامية في العراق إن جزءا من التدافع الاقليمي الموجود هو حرب كلامية وضغوطات نفسية وتلويحات وتخويفات، والعمل الاعلامي نفسه هو اداة من ادوات الصراع السياسي، فبالتالي ان المسألة ليست مسألة اناس سذج او بسطاء، هذه ادوات صراع وتنافس حقيقي بين المصالح والدول، لكن في النهاية يجب ايجاد نقاط التوازن الحقيقية، فهذه هي مصلحة شعوب هذه المنطقة وهي بالتأكيد ليست في اقصاء العراق عن العرب ولا في اقصاء ايران عن المنطقة ولا في محاربة تركيا ولا في الوقوف بوجه الشعب الكردي بل من مصلحة المنطقة ان كل شعوب المنطقة تجد مصالحها الحقيقية بأوزان وأثقال حقيقية، واذا حاولت جهة ان تأخذ اكثر من حجمها وثقلها ستواجه الحياة السياسية، والتاريخ يعلمنا ان لا احد يستطيع ان يرضى الاخرين باكثر من حجمه، واذا اراد ان يأخذ قسراً اكثر من حجمه فإن الاخرين سيواجهونه، وهذا يحصل في المعادلات الداخلية في البلدان.. وعندما جاء صدام وحاول ان يأخذ اكبر من حجمه واستولى على العراق ككل قاد الى كل هذه المعارك في العراق التي لم تؤذ الاخرين فقط أي معارضيه بل اذته هو نفسه، وبالتالي فإن هذه سنة الحياة وهذه قوانين يجب ادراك طبيعتها لاحترامها والاستفادة منها وليس الوقوف بوجهها والدخول في اجواء المنازعات والحروب والاقتتال التي لم تنفع احدا بشيء.

ان هذه الافكار والطروحات الفكرية والسياسية المنطلقة من مشاعر وطنية حقيقية لا تنطلق من معارض لأجل «ابو هاون» فقط وابناء منطقة واحدة، وانما من معارض من اجل العراق كله ومسؤول ومدافع عن مصالح شعبه.

* كاتب واعلامي ومدير مؤسسة الذاكرة العراقية