خليني كفي.. وما بيوفي!

TT

كانت لبنان بلا رئيس لشهور، وبعد انتخاب الرئيس أصبح لبنان بلا حكومة. لقد مر شهر الآن على اتفاق الدوحة، وحتى الآن لم يتوصل المتخاصمون اللبنانيون إلى حل يرضي كل الأطراف في ما يخص تشكيل الحكومة. ترددت كثيرا في كتابة هذا المقال، لما فيه من تعميم قد يكون مستفزا، خصوصا عند اللبنانيين، ولكن لا بأس بقليل من الاستفزاز إذا كان الهدف نقدا خيرا. مشكلة لبنان اليوم وغدا هي مشكلة ثقافة في المقام الأول، ويمكن اختزالها بثقافة التفاوض، سواء في الحياة اليومية أو الحياة السياسية، في عبارة اتخذتها عنوانا لهذا المقال.

عندما يحدثك لبناني في أي شأن وتحاول الاستفسار أو المقاطعة، رده الجاهز دائما «خليني كفي».. ولغير اللبنانيين هذه العبارة تعني let me finish، دعني أكمل الكلام. وإذا كان الحديث في صفقة وتركته ينهي كلامه، أو «يكفي»، ثم قدمت له عرضك، رده الجاهز دائما «ما بيوفي».. ولغير اللبنانيين أيضا العبارة تعني it is not enough، أي أن العرض ليس مغريا بما فيه الكفاية. أزمة لبنان الحقيقية تدور في فلك هاتين العبارتين: (خليني كفي ، وما بتوفي). وهنا لا اختلاف بين شيعة أو سنة أو موارنة أو دروز. في لقاءين تلفزيونيين منفصلين شاهدتهما، الأول بين الإعلامية جيزيل خوري ونعيم قاسم، الرجل الثاني في «حزب الله»، كان الشيخ في معظم المقابلة يقول لها «خليني كفي».. وبعد سنة من اللقاء السابق، التقت جيزيل خوري مع غازي العريضي وزير الإعلام اللبناني، وأيضا غلبت على اللقاء عبارة «خليني كفي». وعندما بحثت عن «خليني كفي» في محرك البحث غوغل وجدت أكثر من نصف مليون إشارة للعبارة. تلك هي المشكلة بمنظورها الثقافي، التي يمارسها اللبنانيون جميعا، إذ ليست محصورة بطائفة أو منطقة. فعندما يقول زعيم التيار الوطني الحر ميشيل عون «مشكلة الحوار أن الموالاة تريد تفصيل قانون الانتخاب على قياسها كي تضمن أكثرية في الانتخابات المقبلة»، معنى كلام عون هو أن الحل الذي توصل إليه اللبنانيون في الدوحة «ما بيوفي» معه، إلا إذا أصبح هو شخصيا وزيرا للدفاع.. وعندما دخل حسن نصر الله وجنوده إلى بيروت كان «بده يكفي»، أي يذهب إلى آخر الطريق.. وعندما تتحدث مجموعة 14 آذار وتقول بأنها مستعدة لتشكيل حكومة وحدة وطنية يكون فيها للمعارضة الثلث المعطل أو الثلث الضامن بشرط الانتخاب الفوري للرئيس واستثناء بيروت من أي تعديل على قانون الانتخاب، فمعنى هذا أيضا أن مجموعة 14 آذار تقول إن الصفقة «ما بتوفي» معها.

أعرف أن اللبنانيين غيورون على بلدهم وثقافتهم، ولا يعجبهم أن يتدخل الآخرون في توصيف الشأن اللبناني طبعا فقط في الكتابة وليس في الارتباطات السياسية والاقتصادية. ولكن من باب العشم رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الشأن. جوهر هذا المقال ليس نقدا جارحا للثقافة اللبنانية، ولكنه رؤية من يراقب الوضع وهو خارج المعمعة، حيث لا يغرق في تفاصيل الأشجار وتكون لديه القدرة على رؤية الغابة ككل مجمل.

ها هو شهر قد مر على اتفاق الدوحة، والبند الوحيد الذي طبق منه حتى الآن هو انتخاب العماد ميشيل سليمان رئيسا للجمهورية. أما بقية الركام الذي خلفته الاختلافات اللبنانية فلم ينفض حتى الآن. يدور حديث في الأوساط اللبنانية اليوم عن حالة الجمود وعدم الثقة التي تسيطر على الاتصالات والمشاورات لتذليل هذه العقبات للتوصل إلى تشكيل الحكومة. وقد يذهب الرئيس سليمان في رحلته الخارجية الأولى كرئيس للبنان لقمة اتحاد المتوسط في باريس ويعود، والحال على ما هو عليه.. حالة من المراهقة السياسية بامتياز. يتحدث الرئيس سليمان عن التريث في تأليف الحكومة وكأنها مدخل للمصالحة، ولكن حقيقة الأمر أن هناك لبنانيين «بدون يكفوا»، كما أن هناك لبنانيين آخرين يرون أن الصفقة بالنسبة لهم «ما بتوفي».

لجنة الحوار اللبناني المنبثقة عن الجامعة العربية التي اجتمعت مع الخصوم اللبنانيين في الدوحة في الفترة من السادس عشر إلى العشرين من مايو 2008، كانت تظن أنها باختيار العماد ميشيل سليمان رئيسا للبنان بعد نهاية الحوار ستنهي الأزمة وسيخطو لبنان خطواته باتجاه الاستقرار. وتفاءل الشعب اللبناني والعرب معه بهذه المصالحة، ولكن ما هي إلا أيام حتى تبين لنا أن المتخاصمين ما قبل الدوحة والمتصالحين ما بعدها، يرون بأن اتفاق الدوحة «ما بيوفي»، وأنهم على ما يبدو «بدون يكفوا» في الخصومة. هذا هو فعلا السبب الرئيسي في صعوبة التوصل إلى حل في لبنان البعض «بده يكفي» في النزاع، والبعض الآخر يرى العرض المطروح من قطر ومن الجامعة العربية ومعهما الشيكات «ما بيوفي». ويضرب رعاة الاتفاق في الدوحة أكفهم، يضربون أخماسا في أسداس، هل هم يتكلمون اللغة ذاتها؟ مدرسة (خليني كفي، وما بيوفي) لا توجد إلا في لبنان، وهي تنم عن ثقافة تفاوضية لا منتهية أي لا أمل في التوصل إلى حل أو نهاية معها لأن أساسها التفاوض الدائم.

وبغض النظر عن الخصوصية اللبنانية السابقة الذكر، التي أدت إلى تعثر مفاوضات اللبنانيين حول الحكومة وتشكيلها، كما أدت إلى فشل المبادرات السابقة تجاه لبنان. أستطيع أن أقول إن المبادرات العربية المختلفة تفشل بسبب غياب اللغة الواضحة، وعدم القدرة على تسمية الأسماء بمسمياتها. فبينما صرحت قطر في سورية بأن الأزمة في لبنان هي شأن لبناني داخلى، نقلت قطر نفسها في ما بعد الحوار اللبناني ـ اللبناني إلى الدوحة، فكيف يكون أمرا لبنانيا داخليا ويسوى في دولة أخرى بمشاركة ثماني دول في لجنة الجامعة، إضافة إلى الدول التي كانت تتصل يوميا بالدوحة.. و«خلوني كفي».

بالطبع، قطر تشكر على المجهود الجبار الذي أدى بلا شك إلى وجود شخص على كرسي الرئاسة في لبنان، ولا يمكن لأحد أن يقلل من هذا الجهد الدبلوماسي الكبير، مهما اختلف المرء أو اختلف مع السياسة القطرية. لكن القطريين على ما يبدو قد تورطوا واشتبكوا عاطفيا مع المشاكل اللبنانية، وأي عرض ستقدمه قطر في المستقبل سيكون وفقا للذهنية التفاوضية اللبنانية «ما بيوفي».

في كل العالم (enough is enough).. ولكن في لبنان لا شيء يكفي إلا استمرار الحديث وأضواء الكاميرات وعقد الصفقات إلى ما لا نهاية. وإلى هنا، إذا لم يكن هذا المقال بالنسبة للإخوة اللبنانيين «بيوفي»، فإنني لن أزيدها عليهم وأقول لهم «خلوني كفي» في مقال قادم.