التفاوض السوري ـ الإسرائيلي ومزارع شبعا

TT

باستثناء حزب الله ومحطّة مناره، لا يبدو أنّ أحداً يصدّق أنّ الاهتمامَ الغربيَّ المُفاجئ بمزارع شبعا، لإجلاء اليهود عنها، حقيقيٌّ، وستكون له ثمرات. محطّة المنار قالت قبل يومين في مقدمة نشرة الأخبار، وتعليقاً على زيارة وزيرة الخارجية الأميركية لبيروت إنّ أَوساط الحكومة، وأوساط فريق 14 آذار تعتبر تحرير الأسرى اللبنانيين، وخروج الجيش الإسرائيلي من مزارع شبعا ووضعها بعُهدة الأُمم المتحدة، كفيلان بإسقاط شرعية سلاح حزب الله؛ إذ لن يكونَ هناك سببٌ معقولٌ لبقائه على ترسانته العسكرية!

بيد أنّ الأطرافَ الأُخرى، اللبنانية والعربية (بل والإسرائيلية)، لا ترى في هذا الأمر (أي العمل على خروج الإسرائيليين من مزارع شبعا) أيَّ جدّية أو أمل. وهو الموقفُ نفسُه، الذي بدأوا يتداولونه بشأن المفاوضات بين سوريا وإسرائيل لاستعادة الجولان. ولنبدأ بالمعلِّقين والمحلِّلين الإسرائيليين، والذين ذكرت صحيفة «هاآرتز» آراءهم قبل يومين. هؤلاء يقولون إنّ أولمرت عاجزٌ عن القيام بأي شيئٍ وبخاصةٍ إذا كان في حجم الجلاء عن الجولان. أمّا مزارع شبعا اللبنانية؛ فإنّ الإسرائيليين لن يجلوا عنها الآن، لأنّ القيادة العسكرية الإسرائيلية تُعارضُ ذلك. وينقلُ هؤلاء كلاماً على لسان وزيرة الخارجية الإسرائيلية مفادُهُ أنّ إسرائيل ليست مستعدةً لإعطاء جوائز الآن في فلسطين وسوريا ولبنان لإدارة بوش الغاربة؛ كما أنّ حكومة أولمرت لا تملكُ التفويض الشعبيَّ الضروريَّ لا في الكبير (فلسطين وسوريا) ولا في الصغير (مزارع شبعا). والفعل؛ فإنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت قال يوم 18/6/2008 إنّ عنده شرطين للجلاء عن مزارع شبعا: التفاوُض الثنائي مع الحكومة اللبنانية، والأهمّ من ذلك: نزع سلاح حزب الله، وإنهاء بنيته العسكرية المتربّصة بإسرائيل! وسارع رئيس الحكومة اللبنانية للردّ على أولمرت بالقول من خلال مكتبه الصحافي: لا مفاوضات مع إسرائيل من أجل مزارع شبعا، ولبنان في تواصُل مع الأُمم المتحدة للبحث في تحرير مزارع شبعا تبعاً للقرار الدولي رقم 1701، والقرارات الدولية الأُخرى (يعني القرار رقم 425).

أمّا المعلِّقون اللبنانيون (بمن فيهم القريبون من الحكومة اللبنانية، و14 آذار!) والعربُ والغربيون، فلا يَرَونَ فُرصةً ولو ضئيلة لحصول شيئٍ على جبهات التفاوُض فيما تبقَّى من عهد الرئيس بوش، ومن ضمن ذلك مزارع شبعا اللبنانية. وهم يذكرون الأسبابَ التي ذكرتْها وزيرة خارجية إسرائيل، ويضيفون إلى ذلك أنه منذ العام 2006، وزوال المحافظين الجدد، عادت السيطرة في الإدارة البوشيّة إلى الجيش والاستخبارات، التي تنتهجُ سياسات لإخراج الولايات المتحدة من المأزق العراقي، ومواجهة الخطر النووي الإيراني، وإعادة ترتيب الأوضاع العسكرية والأمنية في مواطن وجود النفوذ الأميركي الذي يواجه الفَشَل في كل مكانٍ نتيجة سياسات بوش العشوائية في فترة رئاسته الأولى! ولذا فإنّ كوندوليزا رايس لا تملكُ نفوذاً ولا سياسات، وحتّى لا تعلم إنْ كان بالمستطاع فِعْلُ شيئٍ بالفعل في فلسطين ولبنان وسوريا. وغنيٌّ عن البيان (كما يقول سياسي لبناني ليس بعيداً عن أوساط 14 آذار( أنّ الذي يريد القيام بهذه الأُمور كُلِّها، لا ينتظر حتّى لا يبقى من عهده غير بضعة أشهُر؛ وبخاصةٍ أنّ الأميركيين ما يزالون يعارضون علناً التفاوُض السوري ـ الإسرائيلي غير المباشر، وقد رفضوا طلب الرئيس بشّار الأسد لرعاية مفاوضاته مع إسرائيل، بجانب تركيا أو بدونها!

لكنّ هؤلاء المعلّقين والمحلِّلين، والذين يتفقون على عدم جدية الإسرائيليين والأميركيين، مختلفون في «مقاصد» الرئيس الأسد من وراء التفاوُض الآن مع إسرائيل. فمنهم من يقول إنّ النظام السوريَّ يريد فكَّ العُزلة العربية والدولية عنه، وقد نجح بالفعل في فتْح بابٍ مع تركيا، وآخَر مع فرنسا. وهو لن يخسر شيئاً إنْ لم يؤدِّ التفاوُضُ إلى شيئٍ الآن؛ فالجولان محتلٌّ منذ العام 1967، وقد استطاع السوريون تجديد الحديث عنه بدون تكلفةٍ، وبما يزيد من شرعية النظام في عيون شعبه. ويقول آخَرون: إنّ هناك مطالبات عربية ودولية من سوريا منذ سنوات بفكّ التحالُف مع إيران (واستطراداً مع حزب الله). وكان النظام السوريُّ قد أضاع الكثير من الأوراق منذ العام 2000، عام وفاة الرئيس حافظ الأسد. وهو بهذه الطريقة الجديدة، يصطنع وظائف وأدواراً جديدةً له: يزيد من حرص الإيرانيين عليه، وعروضهم تُجاهَه. ويستدرج عروضاً من العرب والدوليين للابتعاد التدريجي عن إيران، أو في الحد الأدنى، لعدم الدخول في حروبٍ جديدةٍ بالمنطقة إلى جانبها.

ولا شكّ أنّ وجهات النظر الغلاّبة هذه لها اعتبارُها، وينبغي أَخْذُها في الحسبان في ضوء مجريات السنوات الماضية، والتي ما كان فيها الأميركيون والإسرائيليون مسالمين ولا مُفاوضين جدّيين. لكنْ من جهةٍ ثانيةٍ فإنّ التفاوُض السوري ـ الإسرائيلي العَلَني جديدٌ وجدّيٌّ كما يقول الطرفان، وكما يقول الوسيط التركي. والأوروبيون الذين تردَّدوا أولاً، وإن لم يصرّحوا بالتشكُّك كما صرَّح الأميركيون، تحوَّلوا عن ذلك وفي مقدمتهم الفرنسيون الذين يريدون الآن جمع الأسد مع أولمرت في باريس في 14 تموز (يوليو) المقبل. وقبل اللبنانيين ومزارع شبعا يكونُ علينا أن نتأمَّلَ المشهد الفلسطيني المستجدّ أيضاً. فالمصريون يتوسطون من سنوات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وبين حماس وفتح، وما حقّقوا أيَّ نجاحات. لكنهم نجحوا الآنَ وفجأةً في تحقيق تهدئة بين حماس وإسرائيل، وبين حماس وفتح. وقد رحّب الجميع بما في ذلك الأوروبيون والأميركيون والدوليون بالأمرين المفاجئين! وإذا كان الطرفان الفلسطينيان قد تلبّسا فجأةً لَبوس الحكمة، وأصغَوا جميعاً للمصالح العليا للشعب الفلسطيني بعد طول تجاهُل؛ فلماذا تستجيب إسرائيل وفجأةً أيضاً للتهدئة مع غزة الحماسية، بعد أن أَوهمت في الأسبوع الماضي، أنّ مجلس وزرائها المصغَّر، سيتخذ قراراً باجتياح غزة أو ما يُشبهُ ذلك؟ فالتقارُبُ الفلسطيني ـ الفلسطيني، يزيدُ من صدقية السلطة الفلسطينية في التفاوُض، ويُحرج إسرائيل إنْ لم تكن تُريدُ بالفعل الموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية العام 2008، كما يُعلن بوش ويكرّر!

ولنصلْ إلى لبنان ومزارع شبعا. فالحكومة اللبنانية اقترحت في برنامج النقاط السبْع أثناء حرب تموز عام 2006، والذي صار جزءًا من القرار الدولي رقم 1701 وَضْعَ منطقة المزارع في عهدة الأُمم المتحدة، والقوات الدولية بعد جلاء الجيش الإسرائيلي عنها؛ تمهيداً لاستعادة السيادة اللبنانية عليها بعد الاتفاق مع سوريا. ومنذ ذلك الحين، لا يكاد يمضي أُسبوع إلاّ ويذكّر الرئيس السنيورة بذلك، ويستحثّ الأميركيين والأوروبيين والدوليين على الضغط على إسرائيل، وإنفاذ القرار الدولي المذكور، دون أن يستجيبَ أحدٌ لنداءاته. وما حصد الرئيس السنيورة من وراء جهوده غير ثنائيات الرئيس بوش ورايس والأوروبيين والدوليين، على صموده وثباته وشرعيته، دوما ذكْرٍ لحلّه للمزارع الشهيرة! وقد اضطرّ ذلك الرئيس السنيورة أخيراً وبعد دخول حزب الله بسلاحه إلى بيروت، وثناء الرئيس بوش على السنيورة كالعادة؛ إلى مواجهة الرئيس الأميركي ـ وهو في شرم الشيخ والسنيورة في الدوحة ـ بأنّ المدائح لا تُطعم خبزاً، ولا تحلُّ الأزمة في لبنان، وأنّ المساعدة التي يستطيع بوش تقديمها له ـ دونما ثناءٍ أو تعظيم ـ تتمثّل في الضغط على إسرائيل، للخروج من مزارع شبعا!

... وقبل ثلاثة أسابيع بالضبط، تفاقم ـ وهذا هو التعبير الصحيح ـ الاهتمام الغربي والدولي، وفجأةً ، بمزارع شبعا، دون غيرها. تحدَّث عن ذلك الأمين العامّ للأمم المتحدة، وتحدث عن ذلك وزير الخارجية البريطاني في بيروت، وتحدث عن ذلك الفرنسيون، وجاءت رايس إلى لبنان من إسرائيل لتُعلن ذلك من القصر الجمهوري، ومن أمام سرايا رئاسة الحكومة! وبالتزامُن مع ذلك أُعلن عن انتهاء الجولة الثانية من المحادثات بتركيا بين السوريين والإسرائيليين وبنجاحٍ بارز! والحلُّ المعروض لمزارع شبعا لا يلحظ تفاوُضاً ثُنائياً، يذكُرُ نَزْعَ سلاح حزب الله، كما اشترط أولمرت. بل إنّ الأمين العامَّ للأُمم المتحدة قد يعرضُ على مجلس الأمن مشروع قرارٍ لحلول القوات الدولية محلّ القوات الإسرائيلية في المزارع، استكمالاً لتطبيق القرار رقم 1701، والذي انتهى بمقتضاه الاشتباك بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله في آب (أغسطس) عام 2006.

إنّ هذه الأُمور«المفاجئة» كلَّها، وفي فلسطين، وسوريا، ولبنان، تأتي في سياقٍ واحد. فيبدو الحلّ المحتمل لمسألة مزارع شبعا تغطيةً للظَهر السوري في التفاوُض مع إسرائيل، أكثر مما هو خدمة لبنان في مواجهة حزب الله وسلاحه. بعد حرب تموز (يوليو) عام 2006، كما نذكر، ألقى الرئيس بشار الأسد خطابَهُ الشهير في نهج المقاومة والتحرير، في مواجهة نهج صنائع إسرائيل ومنتجاتها اللبنانية والعربية. والآن وفي الوقت الذي دخل فيه النظام السوري ـ مفارقاً نهج التحرير من طريق المقاومة المسلَّحة ـ في مفاوضاتٍ لتحقيق جلاءٍ عن الجولان سِلْماً وليس حرباً، يعلن السيد حسن نصر الله، بعد الدخول المسلَّح إلى بيروت، عن اقتراب نجاح «المفاوضات» غير المباشرة مع العدوّ الصهيوني، في إطلاق سراح الأسرى اللبنانيين؛ في مقابل جُثَث وأشلاء جنود إسرائيل الغازية!

إنه سياقٌ واحد، ولستُ أدري كم يحقّق من نتائج. لكن الذي أدريه أو أنصحُ به، أنه كما يصحُّ استخدامُ نموذج السنوات الماضية في التقليل من شأن هذه الظواهر التفاوضية؛ يصحُّ أيضاً استخدامُ نهج «المفاجآت» في اعتبار المستجدات. وقد اعتاد فقهاؤنا منذ القديم، وبعد أن يكونوا قد استنفدوا عبر عشرات الصفحات عرض شتّى الاحتمالات، على القول: هذا، والله أعلم!