مَيْسان.. بعد بشائر السلام!

TT

لم تبق بلدة عراقية خارج أضواء الإعلام العالمي، من كبارها إلى صغارها: هبهب، والزنجيلي إلى اللطيفية. أما الفلوجة فلعلها اشتهرت أكثر من العراق نفسه! عامان وهي تحت الأضواء، حتى أشبك إخوتنا، حملة شعار من الفلوجة إلى القدس، فلوجة العراق بفالوجة فلسطين! وها هي مَيْسان تتصدر الإعلام، في الحملة العسكرية والأمنية، وهي الثالثة بعد البَصْرة والمَوْصِل. وبما أنه تجمع لديَّ كشكول للبلدان العراقية، عبر ملاحقة حوادثها، فليس ليَّ إغفال مَيْسان، ذات الاسم الآرامي «مي سيانة» أي الماء الطيني (رومي، الصَابئة). ولكم تخيل نعمة هذا الماء لزراعة الرُزِّ، واسمه العراقي (التمن)، وقيل إنه بقية بابلية!

وتبدو حملة مَيْسان أقل مشاكسة من غيرها، وللاسم دلالة: «بشائر السلام»، إلا أن الإعلان عن تفاصيل الحملات قد لا يضمن النجاح، فمن الواجب أن تعامل الخطط العسكرية والأمنية بسرية، مثلما يقتضي الأمر في أرقى الدول ديمقراطيةً، ومعلوم أن لمَيْسان منافذَ ذات أفق بعيد المدى عبر سلاسل تلول، واختلاط مياه، وتشابك أهوار مع الجارة الشرقية لا غيرها. ومما ميز حملة مَيْسان هو حيادية التيار الصدري، ومباركته حصر السلاح بيد الدولة، مع الحذر تقصده، ويرى الجميع للتيار إمكانية النجاح عبر سلاح الكلمة، وجيش الناخبين، لما في داخله من أناس مخلصين لوحدة العراق، وضد المحاصصة، وكفاءات غطى عليها حملة السلاح.

كان الانشغال ببغداد وغرب العراق، والخشية من تفتت العضد الطائفي المفتول داخل الائتلاف الشيعي، أضر بمدن محافظات الجنوب، وكانت مَيْسان تقاد يومياً إلى حرب تجد مدير شرطة أو محافظ أو قائمقاميين ينتصرون لجماعاتهم ضد الدولة نفسها، فكم دارت معارك خرساء، بلا ضجيج إعلامي، ويذهب ما يذهب فيها من أرواح، وخراب منازل!

ولا أرى الحملة العسكرية كافية لكي تعود محافظات الجنوب، ومَيْسان أو العِمارة، مثلما كان اسمها قبل (1969)، واحدة منها، إذا لم يعالج أمر المحافظين، واختيارهم على اساس الكفاءة خارج الولاءات الحزبية في الانتخابات القريبة! وأن تعاد للوحدات الإدارية منزلتها في محافظ مقتدر لا يُنتخب على أساس مستوى جهاده السابق، فالمعارضة غير السلطة! وبهذا لا بد من حسم الأمر لصالح القائمة المفتوحة، وأبعاد المساجد والحسينيات والمرجعيات الدينية، وكل مؤثر غير البرنامج، فهو السبيل إلى بناء المدن وإعمارها. والجنوب، على وجه الخصوص، إذا ظل الحال كما هو عليه، سينسى فلاحه الزراعة، وسيُقال بعد سنوات لا قرون: كانت هذه الرمضاء حقولاً للتمن وقصب السكر، وبساتينَ للنخيل والرمَّان!

مَيْسان، أو المذار، أو دستمَيْسان، شأنها شأن البلدان العراقية الأخرى منجم للحضارات، ذات امتدادات سومرية وأكدية، وتاريخ للغة الآرامية، وورد اسمها مقترناً بخيرات أرضها. قال ابن الفقيه (نحو 340هـ): «ولأهل كورة دجلة والسَّواد ومَيْسان ودَستمَيْسان من عمل الستور والبُسط وعمل المَيْساني والحرير.. ما ليس لأحد» (أخبار البلدان). ووجدها الحَموي (ت 626 هـ): «كورة واسعة كثيرة القرى والنخل» (معجم البلدان)! وتركها القزويني (ت 681 هـ) كثيرة الأهوار: تكثر فيها «البط والفراريج التي تصاد بالشِباك، وتُحمل إلى أسواق المدن المجاورة، وكان يصاد فيها كثير من الشبوط فيملح ويحمل إلى غيرها» (ك لسترنج، بلدان الخلافة الشرقية). أقول: وهي هكذا إلى زمن قريب قبل التجفيف والحروب، والآن يأتيها السمك ويأتي البَصرْة مستورداً، ولا تصنعا ولا تزرعا! ألا خجل صدور زماننا!

العِمارة، وهي قصبة محافظة مَيْسان، أخذت اسمها من عِمارة سكنها الجيش العثماني (1861)، قال فيها الجواهري (ت 1997): «أي عيشٍ لي في العمارة رَغدٍ.. وزمانٍ مضى هنالك عذب» (1926). ولعل قلة مَنْ يهتم بالثقافة آنذاك جعل الشاعر يعود منها، ولم يبع نسخة من الثلاثين نسخة من ديوانه، عندما أَمَّها (1935) لتلك الغاية. ورد ذلك في تقرير سري، ضمن ملف الشخصيات المشبوهة (البلداوي، لقاء الأضداد). وأحاذر من عودة ذلك الحال.

لضريح عزرا (العزير) الكاتب أو النبي، وبقية أضرحتها التاريخية، قصص لا مجال لعرضها. كان يؤمّه اليهود والمسلمون، وهو يقوم على حدوة دجلة، والآن ينفرد المسلمون بالتبرك به بعد أن أفرغ العراق من يهوده. وما زالت مَيْسان واحدة من مدن التآخي العراقي فيها، إضافة إلى المسلمين، صابئة مندائيون، ومسيحيون. ومنها تحدر: الحسن البصري، وابن سيرين (توفيا 110 هـ)، وفي عصرنا عالم الفيزياء عبد الجبار عبد الله (ت 1970). أجدها تمتلك كل مقومات تغلبها على بؤسها، إذا ما تمكن المَيْساني من مواجهة ذوات الدولة، بقول عبد الرحمن البناء (ت 1955) بلا وجل: «فلسنا انتخبناكم لإصلاح حالكم.. فنحن انتخبناكم لدفع النوائب»! فلا أخصب للزرع من الماء الطيني: مَيْسان.

[email protected]