سقاء في الليل وكاتب في النهار

TT

ما أكثر الليالي التي أهم فيها بالكتابة فيأتيني صوت الأسرة محتجا:

ـ ماذا ستكتب وقنوات الماء في بيتك تصفر فيها الرياح؟!

فأتحول من كاتب إلى سقاء، أقف في طابور توزيع الماء في مدينتي لكي أعود إلى الأسرة مظفرا بعد عناء، أجر خلفي عربة نقل الماء لأنثر الحياة من جديد في شرايين البيت، فتهدأ ثائرة سكانه، وتغتسل الوجوه من التوتر والقلق والاكتئاب، وتعود محتفية بالمساء.

في مركز توزيع الماء في مدينتي تعرفت على سائقي حاويات الماء، وحراس الأمن، ووجوه كثيرة من الأصدقاء الذين فرقتهم الحياة ليجمعنا البحث عن الماء..

في طابور الانتظار تنبت الحكايات، وتزدهر الضحكات باعتبارها شر البلية..

في انتظار الماء تفوح روائح الأجساد التي لم تغتسل بعد، وتتفجر المسامات بالعرق، ويغدو الصبر سيد اللحظات العصيبة..

حينما أصل إلى أول الطابور أتأمل عربة نقل الماء القادمة من بعيد، وهي تتمخطر مختالة في الدرب، حالها كحال حبيبة الأعشى التي يصف مشيتها بقوله:

«كأن مشيتها من بيت جارتها

مشي السحابة لا ريث ولا عجل»

هل جربت قط أن تقرأ واقفا في الزحام؟ أنا جربت ذلك، فلقد تعودت أن اصطحب جريدة في طابور الانتظار في مركز توزيع الماء، وحينما أهم بفتح صفحاتها غالبا ما تصطدم يداي بوجوه الناس في الطابور، فالمسافة لا تتسع لثقافة «التيك أواي»، وغليان النفوس لا يحتمل مثل هذه التصرفات.. آثرت بعد ذلك أن أنتقي من مكتبتي في كل مرة كتابا، وما أكثر الكتاب الذين اصطحبتهم إلى هناك: العقاد، طه حسين، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، تشيكوف، البير كامو، وغيرهم من الكتاب بمن فيهم حبيبانا في صحيفة «الشرق الأوسط»: أنيس منصور، وسمير عطا الله، فهما لم يسلما أيضا من الوقوف معي في طوابير الانتظار..

قبل أيام أراد الذي كان بعدي في الطابور أن يرفه عن نفسه فرفع عقيرته بالغناء: «عطشان يا صبايا.. دلوني على السبيل»، ولست أدري كيف أتخيل كل تلك الشوارب تحيط بها صبايا، وغالبيتها من نوع الشوارب التي يقف عليها الطير، وتزمجر في غاباتها الرياح، استنكرت صوته فمنحته موقعي المتقدم، وظن ذلك مكافأة فمضى يمطر الليل بالمواويل.

وإلى هنا اعتذر عن تكملة كتابة المقال، فثمة وقت للكتابة، وثمة وقت للسقاية.. وحسبنا وحسبكم الله.

[email protected]