«لبنان المحتل».. ضحية الطبخة الإقليمية السامة

TT

وسط البحر المتلاطم من المبادرات والتصريحات، والتسريبات ومشاريع اللقاءات، ثمة طبخة تحضّر في منطقة الشرق الأوسط على نار هادئة، فيها من السّم بقدر ما فيها من الدّسم.

مَن يخدع مَن؟ مَن يدسّ السم لمَن... بينما يطمئنه إلى التزاماته «الأخلاقية» وثوابته «المبدئية» تجاهه؟ علينا إحالة هذين السؤالين إلى الرئيسين نيكولا ساركوزي وجورج بوش «الابن» ومن يثقان به وينسقان معه في القدس المحتلة.

الواضح فقط أن كل هذا الحراك لا بد أن ينتهي لمصلحة فريق وضد فريق آخر. ويستحيل في ظل التناقض الفظيع في المواقف المعلنة ألا تكون النتيجة كذلك.

فما عرفناه خلال العقدين الأخيرين، أو بالأصح دُفعنا دفعاً إلى تصديقه، وجود تناقض «حضاري» بين الإسلام والغرب «فلسفه» كتابةً بعض الأكاديميين الأميركيين، وجاءت نظريات «المحافظين الجدد»، ثم اعتداءات 11 سبتمبر/ أيلول 2001... لتزكّيه.

ثم انطلق الرد على الاعتداءات ليترجم نظريّات «المحافظين الجدد» على الأرض. لكن الغريب في الرّد أنه جاء انتقائياً جداً. فمع أن بول وولفويتز وريتشارد بيرل ومايكل ليدين وغيرهم أقنعوا إدارة بوش «الابن» بضرورة «تجفيف منابع الإرهاب» بشمولية لافتة، ومع أن إيران الخمينية كانت دائمة «عروس شعر» تيار اليمين البراغماتيكي والصهيوني في أميركا وأوروبا الغربية، جاء الرّد ليضرب نظامَي الحكم الأكثر إزعاجاً لطهران من شرقها ومن غربها.

وهكذا، أسقطت واشنطن صنيعتها السابقة «طالبان» من دون أن تُخرِج أفغانستان من نفق الفوضى والتخلف والهيرويين،... ثم أسقطت صدام حسين حليفها التكتيكي السابق ضد «تصدير الثورة الخمينية» وسلّمت العراق عملياً لطهران لكي يتعزّز عبره جسرها الاستراتيجي إلى قلب العالم العربي.

اليوم يُقال لنا إن واشنطن وحليفاتها الأوروبيات «لن تقف مكتوفة الأيدي» أمام تنامي خطر القوة النووية الإيرانية، بل نسمع ـ يا لطيف ألطف – أن إسرائيل متحمسة لكبح جماح دولة «الولي الفقيه» إلى حد أنها على استعداد لمهاجمة إيران بمفردها إذا خذلها الحلفاء!

من ناحية ثانية، نسمع أن واشنطن وحليفاتها على التزام كامل بالسلام في الشرق الأوسط وقيام الدولة الفلسطينية، والدفاع عن سلامة أراضي العراق، وسيادة لبنان واستقلاله.

كلام جميل..

لكن إسرائيل «المزمجرة» في وجه إيران، وملحقات إسرائيل وامتداداتها الفكرية والتنظيمية والمصلحية في أميركا وأوروبا، وبالأخص فرنسا، «تبيع» العالم كذبة فظيعة عنوانها «العمل على فصل التحالف الإيراني السوري» وهو التحالف الذي يرعى اليوم مشروعين في آن معاً، هما:

1- نسف إمكانيات قيام الدولة الفلسطينية. وهو ما يفسّر إصرار تل أبيب على ضرب صدقية السلطة الفلسطينية عن طريق مواصلة بناء المستعمرات وتوسيعها وتعطيل الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني، ودفعه إلى أحضان «حماس» و«الجهاد الإسلامي» حيث الصدقية و«المال النظيف» والبديل الجاهز والملاذ الطبيعي لليأس والتطرف.

2- تسليم لبنان، الذي تؤمّن قوات «اليونيفيل» الدولية حدوده الجنوبية مع إسرائيل، إلى «حزب الله» لكي يمسك بتلابيبه باسم «أمن المقاومة». ومن ثم الانتظار.. بأمل أن يجرّ هذا الواقع إما إلى «عرقنة» يتسبّب بها دخول عناصر متطرفة سنيّة هدفها تحرير السّنة من نير الهيمنة الشيعية، أو إلى «إخراج» سهل للصفقة الإقليمية مع حكم سوري هو أصلاً على علاقة تفاوضية و«تعايش» تحالفي ضمني مع إسرائيل.

ما تفعله إسرائيل وامتداداتها الدولية اليوم رعاية مسار خطير للغاية يُبطن عكس ما يعلن.

إنها بكل بساطة تسعى لتدمير القوى العقلانية في فلسطين وفي لبنان، بعدما كان «اللوبي» التابع لها في واشنطن المحرّض والمحرّك الأول لـ«سيناريو» تسليم العراق لطهران وأتباعها.

فالتفنن في إضعاف السلطة الفلسطينية منذ حصار ياسر عرفات في رام الله وتحميله تبعات العمليات الانتحارية ضد المدنيين، والمباشرة ببناء السور، ووصولاً إلى «التعايش» مع صواريخ «غزة ستان» والتفاوض معها، على الرغم من معرفة العلاقة التنسيقية القديمة بين غزة ودمشق وطهران.. مسألة تحثّ على التفكير الواقعي.

أما في لبنان «المحتلّ» واقعياً، فالوضع غدا مرشحاً لمزيد من الكوارث بعدما أسفر «حزب الله» عن استراتيجيته، وتجاوز معها ما قاله الدكتور سمير جعجع ـ قبل أيام ـ عن حالة «ما لنا لنا وحدنا، وما لكم لنا ولكم». فالحقيقة بعدما انتهى الكلام عن «شرعية المقاومة» ليصبح عن «أمن المقاومة»، واستخدام «السلاح لحماية السلاح»، هي أن «الحزب» يعمل وفق مبدأ «ما لنا لنا، وما لكم أيضاً لنا». واللافت من إصرار إيهود أولمرت على توجيه الدعوات العلنية إلى فؤاد السنيورة لكي يفاوضه تصوير رئيس الحكومة اللبنانية وحلفائه على أنهم دمى غربية ضعيفة أو عميلة، بينما الحكومة الإسرائيلية تفاوض حقاً «حزب الله» عبر ألمانيا، وتسعى لإعطائه مزيداً من الانتصارات المعنوية والتكتيكية باسم الإفراج عن الأسرى الذين يفترض أن يُسلّموا أصلاً إلى الدولة.

أما ما يختصر «المأساة – الملهاة» على أفضل نحو فموضوع مزارع شبعا.

إسرائيل تهمها المزارع من أجل المياه الجوفية وهو نفس سبب حرصها على الاحتفاظ بمرتفعات الجولان. و«حزب الله» لا تهمه المزارع ولا أصحابها لكنه لا يريد أن يفقدها كمبرّر استخدمه طويلاً لتبرير احتفاظه بسلاحه (يوم كان بحاجة لذلك). ودمشق لا يهمها لا الجولان ولا المزارع لكنهما يظلان ورقتي تفاوض للمحافظة على النظام أولاً، وإعطائها دوراً مميزاً في تسيير لبنان (والهيمنة عليه) ثانياً.

هنا أذكر مجدّداً كلاماً قرأته قبل فترة لمسؤول إسرائيلي جاء فيه: «نحن تهمّنا مرتفعات الجولان، وكنا في الماضي نبتّز السوريين حولها من «خاصرتهم» اللبنانية بحجة الدفاع عن المسيحيين. أما السوريون فلا تهمّهم المرتفعات بل يريدون لبنان الذي يهجره مسيحيوه ويسيطر عليه الشيعة. في هذه الحالة ما شأننا اليوم بلبنان شيعي؟ ولماذا لا نتركه لسورية ثمناً لاحتفاظنا بالجولان؟».

كلام ـ من وجهة النظر الإسرائيلية طبعاً ـ سليم. وهو ما يؤمن به كما يبدو الرئيس ساركوزي ومستشاره الأريب كلود غيّان.