ترف الجدل

TT

الشأن والحدث العراقي مدول بامتياز، فعادة الانتخابات المحلية لا تحظى بما تحظى به الانتخابات المحلية في العراق من اهتمام، فهي رغم خصوصيتها ومحليتها المغرقة تجد لها انشغالا اقليميا ودوليا لافتا، فالادارة الامريكية تعتبر اقرار قانون الانتخابات وقانون النفط من الاولويات الآنية، فترى في الانتخابات استكمالا للاطر الديمقراطية التي سعت لبنائها في العراق، ولكي لا تظهر الادارة الحالية ان خسائرها تهدر بالنكوص عن الديمقراطية، ومن جهة اخرى فهي تظن أن انتخابات مجالس المحافظات تمثل اطارا لاحتواء التمثيل الحقيقي على الارض، الذي برز ضمن المتغيرات الاخيرة، الممثلة بظاهرة الصحوات ومقاتلة العشائر لقوى الارهاب والعنف وسعيها لاستكمال ذلك بالتمثيل السياسي، كما ان انتخابات مجالس المحافظات، هي احد المعايير الثمانية عشر التي وضعتها الادارة الامريكية لقياس تقدم ونجاح الحكومة العراقية، بجانب اعتبارها لها كمقياس لشعبية وثقل القوى السياسية. اما البعد الاقليمي فلا شك ان هناك امتدادا اقليميا للقوى السياسية العراقية وانشغالات للجوار في مناطق معينة من العراق، وابرزها الانشغال التركي بقضية كركوك، التي ستشكل نتائج انتخاباتها مؤشرات لمستقبلها.

اما لجهة القوى العراقية المتجادلة على اقرار قانون انتخابات مجالس المحافظات، الذي كان يفترض انهاؤه والتصويت عليه في ايار الماضي لملاقاة استحقاق الانتخابات في الاول من اكتوبر، ولكن للان الجدل مستمر حوله وادخل اليه كثير من عناصر الاعاقة، لذلك فاحتمال عقد الانتخابات بالموعد المحدد بات من الماضي، واحسن فروض اجرائها هو في نهاية العام الحالي، هذا ان لم تتحول الى القادم، فالقوى المهيمنة حالياً على مجالس المحافظات هي ليست في عجلة من اجرائها، كون ان النتائج لن تحسن مواقعها هذا اذ لم تختزلها، ناهيك من ان هذه الانتخابات مقلقة للجميع اذ انها ستكون استطلاعا استباقيا لخارطة الانتخابات العامة التي ستجري في نهاية العام القادم وعلى طبيعة الحكومة القادمة، وبالنتيجة على مستقبل العراق الذي ما زال هلامياً وفي طور التشكل.

للوهلة الاولى يفترض ان يشرع قانون الانتخابات بيسر وسلاسة، كونه لا يعدو ان يكون آلية، رغم الادراك بأن اختيار النظام الانتخابي هو عملية سياسية بحتة لا تعتمد على خبرات المتخصصين المحايدين، بل تلعب المصلحة السياسية الدور الرئيسي والوحيد في الاختيار، ومن هنا جاء الإشكال الاول على النظام الانتخابي، وهو هل يؤخذ بنظام القائمة المغلقة او المفتوحة، ومع تفضيل الكتل الكبيرة والاحزاب نظام القائمة المغلقة، الا ان الخوف من العزوف المتوقع بسبب عدم تحمس الناخب لانتخابات دوره هامشي في الاختيار بين الاشخاص فيها، مثل مانعا من الاخذ بها، فضلا عن التجربة السيئة في نوعية بعض من وصلوا عن طريق هذا النظام الى مجالس المحافظات والنواب، في حين ان نظام القائمة المفتوحة فضلا عن صعوباته اللوجستية في الفرز والتصويت وسماحه بكثرة المرشحين واضعافه للنظام الحزبي وغلبة تأثير القيادات المناطقية والعشائرية فيه وتأثير النفوذ والمال السياسي، كلها عوامل تمنع ايضاً من الاخذ به، لذا استعيض بنظام مختلط من القائمة المفتوحة والمغلقة يتيح للناخب ان يرتب تسلسل المرشحين في القائمة كما يتيح للافراد الترشح باستقلالية، والمشكل الثاني هو تمثيل النساء والاحتفاظ بكوتا 25% لهن قياساً على تمثيلهن في مجلس النواب وليس كاشتراط دستوري، وبرزت صعوبة التوافق على نظام يضمن ذلك، وصولاً للمشاكل الاصعب، حيث تم جلب مشكلة كركوك وبكل تعقيداتها واريد من هذا النظام حلها، حيث اقترحت المكونات غير الكردية ان تقسم كركوك الى اربع مناطق انتخابية، وان تمثل المكونات الثلاثة الكرد والتركمان والعرب بشكل متساو، وان تمنح الاقليات 4%، ورغم اعتراض الكرد الوجيه كون ان هذا قيد على الديمقراطية، الا ان مفضليه يقولون انه اتفاق سياسي تستلزمه خصوصية المدينة، ثم ان الكرد نفسهم قدموا سابقة في قانون المحافظات، الذي شرع على تقييدهم للديمقراطية عندما حرموا من حق الترشح من اتى لكركوك لأغراض التغيير الديموغرافي، اي يمنعون من ولد في كركوك وهو في الثلاثين من العمر من الترشح لعضوية مجلس محافظة او قضاء او حتى ناحية كون ابويه جاءا للمدينة لأغراض تعريب المنطقة، في حين تشهد القوة الاكبر في العالم تغييرا عندما ترشح وربما ستنتخب شخصاً من اصول افريقية لأهم منصب في العالم، خارقة تقليداً بأن يأتي الرؤساء من اصول بيضاء انكلوسكسونية بروتستانتية، والمشكلة الاخرى هي استخدام الرموز الدينية واماكن العبادة في الحملة الانتخابية وهذا يختزن جدلية الدين والسياسة، فهل يحتمل اقرار قانون انتخابي ان تستحضر فيه كل مشاكل العراق؟!

من هنا اجد انه لو قدر يوماً لشعوب منطقتنا ان تتحول او ان تختار الديمقراطية فعليها ان تكتفي بنصف ديمقراطية، لأن الكاملة منها لا تعدو عندنا ان تكون كارثة، حيث ستبتلى بآفة الجدل والإعاقة، كما هي حال ديمقراطتينا العربية في العراق ولبنان وفلسطين، ففي لبنان ما انتهوا من جدل ماراثوني لاختيار رئيس حتى دخلوا بآخر حول تشكيل حكومة، والوطن معطل وانسانه يئن واقتصاده راكد وفرص الاستفادة من تضخم ثروات المنطقة مضيعة، فلولا تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، والتي بلغت 6 مليارات دولار لما اتيح لسياسيهم الاستمرار بالجدل، وفي فلسطين تستمر حماس وفتح في صراعاتهما والبلد على الكفاف ويعيش على ما يوفره له الداعمون الدوليون لكي يستمر سياسيوه بالجدل، وفي العراق نشكر النفط والازدياد المطرد لأسعاره، وإلا لا مصنع اشتغل ولا زراعة انتجت ولا ابنية اقيمت ولا استثمارات جلبت ولا ادارات تحسنت، مكتفين بنعمة الجدل.

ما تحتاجه شعوب المنطقة اكرر نصف ديمقراطية، فنمور اسيا لم تبنها ديمقراطيات، فماليزيا لم تكن لتكون ما هي عليه لولا حكم محاضير محمد لها لاثنين وعشرين سنة بقبضة من حديد وبقفازات ديمقراطية، وسنغافورة ما وصلت لما هي عليه من اعجاز لو حكمتها بدلاً من لي كوان حكومة توافقية او وحدة وطنية وكذا باقي تجارب النمو والتقدم في اميركا اللاتينية، فنحن كما اثبتنا ان السلطة المطلقة مفسدة مطلقة نثبت اليوم ان الديمقراطية المطلقة مفسدة مطلقة!