مرض و«ماااات»!

TT

حينما استسلمت للنوم طفلا في ذلك المساء البعيد متدفئا بحرارة أخي الصغير المرتفعة، لم أكن أعلم أنها ليلته الأخيرة، فلقد أفقت صباحا على غيابه، وحينما سألت أمي عنه، قالت والحزن يعتصر قلبها:

ـ «لقد ذهب إلى جوار ربه».

وفي العصر حينما كنا نلعب في الجوار، راح الأطفال الذين يكبرونني سنا يتحدثون عن موت أخي، ولم أكن أدرك في ذلك العمر للموت معنى، ولكن غدا من المألوف في تلك السنة أن يتناقص عدد الأطفال أسبوعيا، وكان الجواب الذي نتلقاه من الكبار بأنهم ذهبوا إلى جوار ربهم، حتى أنني لأذكر أنني كنت أحد اثنين من الناجين من بين أكثر من عشرة أطفال من الأشقاء والأقارب حصدهم الموت خلال شهر واحد، ولم يكن الناس آنذاك يشغلون أنفسهم بأسباب الموت، فكانوا يكتفون بالقول:

ـ «مرض وماااات».

والذاكرة لم تزل تختزن صورة ذلك الطبيب الهندي، الذي كان يمتطي صهوة جواد أبيض، يطوف أحياء المدينة، ويعالج مرضاها، وحجم الرفض الذي أبداه حلاق المدينة وطبيبها الشعبي «أبو سداح» في مواجهة هذا الغازي الجديد.. وأول صيدلية افتتحت في المدينة عانت كثيرا من انحياز الناس إلى حانوت العطار «الشلبي»، فاستنادا إلى وصفاته راحوا يقاومون أمراض عصرهم، التي يعرفون أسماء بعضها كالحصبة والجدري، ولا يعرفون أسماء جلها كالكوليرا والحمى الشوكية، وكانت تلك الوصفات تصيب حينا، وتخيب أحيانا، وظلت مقبرة المدينة تواصل التهام الراحلين..

اليوم ينتابني الفرح في كل مرة أشاهد فيها أمهات يحملن أطفالهن في طمأنينة لتلقي التطعيمات الأساسية، فأتذكر أحزان أمي على رحيل أخي، واستعيد صور الأطفال الذين كانوا يختفون فجأة من ملاعب طفولتنا كشعاع ضوء، وأحمد الله أننا تجاوزنا أزمنة صعبة يسكنها الموت والحزن والفراق، لكي نصل إلى محطة الزمن الحالي.. ولو كان للإنسانية أن تفخر بمنجزاتها فلن تجد أفضل من منجزها في الحقل الطبي، ومهما تعددت وتنوعت معايير تقدم المجتمعات، فإن المعيار الأعظم يظل مرتبطا بأحوال الصحة.. فهل يأتي اليوم الذي يلتقي فيه الأفراد فلا يسألون بعضهم بعضا ذلك السؤال التقليدي:

ـ كيف الصحة؟!