اللص التائب

TT

راح اللص «التائب» يشرح مهاراته في فتح الأقفال، والولوج إلى دواخل البيوت، ونهب ممتلكات أصحابها، وأنواع اللصوص، وتخصصاتهم، وأساليبهم بلغة استعراضية، وكأنه يتحدث عن ذكريات فوزه في الأولمبياد، وبعد كل حكاية وحكاية يعود لإسناد ظهره إلى المقعد، وهو يقلب أصابعه في حركات لا إرادية تغري بتأملها، وقراءة تاريخها في السلب، والنهب، والتسلق، وفتح الخزائن.. ورغم المقدمة الطويلة العريضة التي قدم بها المذيع في إحدى القنوات العربية لصه التائب لم أشعر قط بالتعاطف مع ذلك اللص، فالتائب من مثل هذا العمل الحقير، القذر، المستهجن، لا ينبغي المتاجرة بتوبته، بل التفرغ للاستغفار، والندم، والاستقامة بعيدا عن اجترار ذلك الماضي الأسود على شاشات التلفاز.

وقد تداعى إلى ذهني وأنا أشاهد ذلك البرنامج الجمعة الماضية صورة أول لص شاهدته في حياتي، وهو رجل سكن حينا، وتخصص في سرقة الحديد والإسمنت والأخشاب بطريقة تتسم بالدهاء، فهو يأتي بعربات النقل التي تجرها الدواب، ويطلب من أصحابها البسطاء تحميل مواد البناء من جوار العمائر تحت الإنشاء، بينما يقف هو على مسافة من الموقع، فإن تعثرت السرقة فر بجلده، وترك أصحاب عربات النقل في مواجهة الاتهامات، وإن تمت المسألة ذهب بحمولته تلك إلى من يشتريها بنصف أثمانها الحقيقية، واشتهر اسم الرجل وذاع، وانقسم الناس في حينا بين الغالبية من الأبرار الذين استهجنوا فعله، وبين القلة القليلة المنتفعة التي تعاملت معه، ولم يجد الرجل بدا من محاصرة الأخيار له من أن يغادر الحي، بل والبلد بأكمله على طريقة اللص الشهير «إرسين لوبين»، إذ عمل حاملا في الميناء، ينقل أمتعة الحجاج من الرصيف إلى داخل السفينة، وفي إحدى المرات التي صعد فيها إلى إحدى السفن الهندية اختفى في جوفها، فذهبت به إلى حيث لا ندري، وبقي هناك سنوات عدة، حتى فوجئ به بحارة المدينة يسبح بين الأمواج في اتجاه الشاطئ بعد أن قذف بنفسه من إحدى المراكب الآيبة.. جاء وهو يتقن بعض اللغات المعروفة في شبه القارة الهندية، وراح يستعرض على الفضوليين حكاياته هناك.

وحينما أعلن الرجل توبته من السرقة تخصص في عمل على تخوم الريبة، وراح يستبق أعمال البلدية في هدم البيوت بغية افتتاح الشوارع الجديدة، فيقوم بتجريد تلك البيوت من كل ما يمكن أن يتاجر فيه من أخشاب النوافذ والأبواب والسقوف، حتى هوى به أحد البيوت ليلقى ـ عفا الله عنه ـ حتفه تحت أنقاضها، ويشيع الناس جثمانه مصحوبا في حاشية من غرائب الحكايات.

[email protected]