الإسلام السياسي: ظاهرة أسر واعتقال المجتمعات

TT

قلبي دائماً مع غزة. مع مليون ونصف مليون إنسان عربي يعيشون تحت وطأة حصارين: حصار إسرائيلي. وحصار آيديولوجي. كلا الحصارين يعيش ويتغذى من الآخر. بحجة صاروخ ضِلِّيل وأعمى، تغتال إسرائيل الصاروخيين من الجو. تغتال معهم الناس العاديين في قطاع هو الأكثر كثافة سكانية في العالم.

حَمَلة الصواريخ يكابرون على الفشل. الصاروخ مزعج لحياة الإسرائيليين اليومية. لكنه يجعل حياة الغزيِّين المحاصرين جحيماً لا يطاق. مصر أدت واجبها القومي. توصلت إلى تهدئة بين المحاصِرين والمحاصَرين. لكن ما زال صاروخ يفلت هناك وهناك، من تنظيمات العقائديين الدينيين المحسوبين على إيران وغيرها، أو من «الفتحاويين» المزايدين على خصومهم الحماسيين.

غزة هي التي تدفع الثمن. تدفعه من حقها الطبيعي في الأمن والتهدئة والتنمية والرفاهية. كان الانسحاب الإسرائيلي (2005) فرصة لتحويل غزة إلى منطقة تجارية وصناعية حرة ومزدهرة في البحر المتوسط. لم يكن في وسع إسرائيل منع العالم من تحويل غزة إلى لؤلؤة اقتصادية يفاخر بها العرب، ويباهي بها مجتمع عربي باسل تحت الاحتلال والحصار.

السبب في الآيديولوجيا. الخطأ في تسييس الدين. التسييس أدى إلى أسر واعتقال مجتمع غزة. هناك إكراه لمجتمع عربي صغير بالقوة والإعلام والمسجد، تسخيرا له لخدمة آيديولوجيا سياسية غير منطقية ولا واقعية، ولا علاقة لها بالدين. الحماسيون والجهاديون، في ظل نظام سلطوي ديني مغتصب، يظنون أنهم قادرون على تحرير فلسطين بصاروخ بدائي منطلق من «فردوسهم» الديني.

ثلاث سنوات في تجربة مجنونة. الفشل لم يقنع الدينيين المتسيِّسين بإنهائها. تجري «قولبة» الشارع الغزي بسيل منهمر من هستيريا الإعلام «الجهادي». يدفعونه إلى محاولة إحراج مصر باقتحام معبر رفح المحكوم باتفاقات دولية، فيما مصر هي السند الوحيد لأهل غزة، لإخراجهم من منطق الحصارين الإسرائيلي و«الجهادي».

بل عملية «جهادية» بائسة ضد معابر إسرائيلية تكفي لإغلاقها أياما أو أسابيع أو شهورا. وهكذا يتسبّب الجهاديون في إيذاء أنفسهم وشعب غزة معهم، بمنح الإسرائيليين الذريعة أمام العالم لإفقار وتجويع وحصار القطاع.

قدمت غزة صورة لمجتمعات عربية وإسلامية رهينة أسر واعتقال الإسلام السياسي والحزبي. أدلجة الدين بتفسيره وفق اجتهاد حربي منغلق حوله إلى أداة سياسية للصراع المسلح أو غير المسلح مع النظام والمجتمع. تسييس الدين أدى تاريخيا إلى كوارث ومآس حلّت بالعرب والمسلمين.

في عصرنا الراهن، أدت أدلجة الدين وتسييسه إلى ثورة دينية خارج منطق العصر والدين في إيران وأفغانستان، وإلى تمرد دموي دفع ثمنه وما زال مجتمع الجزائر (أكثر من مائتي ألف قتيل حسب تقديرات مختلفة). أدلجة الدين في السودان فجرت حروبا أهلية قتل ويقتل فيها مئات الألوف، ثم مزقت أهل وأقارب النظام العسكري الديني.

أحزاب وتنظيمات الأدلجة الدينية تضع المجتمعات العربية ذات التعددية الدينية والمذهبية، كاليمن والعراق وسورية ولبنان والخليج ومخيمات الفلسطينيين، على حافة انفجارات وحروب دينية وعرقية طاحنة (في سورية ولبنان 17 دينا ومذهبا وطائفة).

ظاهرة أسر واعتقال المجتمعات، وتسخيرها لخدمة غرض سياسي ليست بجديدة. اعتقلت الماركسية والفاشية مجتمعات كثيرة وانتهت بالفشل. ظلت أوروبا أسيرة الآيديولوجيا الدينية 1600 سنة. عندما تحررت من نير الكنيسة والحكم الإلهي «المقدس» حققت تقدمها العلمي بالعقل والمعرفة والحرية.

العرب والمسلمون يبدؤون من حيث انتهت أوروبا.

آسيا الصفراء باتت تتحدى الغرب بالعلم والتقنية والحرية والرفاهية، فيما ضفة آسيا الغربية تعاني من إخضاع مجتمعاتها إلى آيديولوجيا آسرة مستغلة الإيمان الديني العميق. هذه الآيديولوجيا توجه العرب والمسلمين ليس نحو العلم والمعرفة والحرية والثقافة والإبداع، إنما لذبح هذه المجتمعات بحجة إعادة أسلمتها (القاعدة في العراق. طالبان في أفغانستان. الجماعة السلفية في المغرب العربي) أو لتجنيدها في الدخول في مواجهة ثقافية أو مسلحة غير مكتافئة مع العالم والغرب. الأداة واحدة. الغرض واحد لدى الإسلام الحربي والسياسي. الإخوان يأسرون المجتمع المصري بشعار «الإسلام هو الحل»، من دون تقديم مناهج عملية وتفاصيل دقيقة عن هذا الحل. التشييع السياسي أثبت فشله في إيران. أنتج حكم رجال الدين (النظام التيوقراطي) أجيالا رافضة لكآبة التجربة. تمرد هذه الأجيال يقابل بالخديعة: إيلاء رجل ديماغوجي بلحية لكن بملابس غير دينية (نجاد) لإلهاب الحماسة المفقودة باستخدام الغيبية (الدعاية لمهدي منتظر ونظرية الفقيه المعصوم) لاجتراح معجزات مستحيلة، ثم الهرب إلى الأمام، بالعودة إلى محاولة تصدير الأدلجة الشيعية إلى سنة العرب والمسلمين.

باسم تجنيد المجتمع لخدمة المقاومة، يجري ضرب الحرية السياسية الهشة في لبنان وغزة والضفة. حزب الله يفرض بالقوة شروطه على المجتمع والدولة. تجري تغطية مسؤوليته عن التسبب في مقتل 1200 شيعي باللجوء أيضاً إلى الغيبية (الانتصار الإلهي. معصومية الفقيه. مهدي منتظر). الحزب يلجأ إلى الهستيريا الدعائية والإعلامية، لإحكام الهيمنة على الطائفة و«تخويف» الطوائف الأخرى.

نحن، إذن، أمام ظاهرة قديمة جديدة. الانتقال من الارتهان الفردي إلى الارتهان الجماعي. نحن أمام خطف وغصب شعوب ومجتمعات بأكملها. زندقتها إن ترددت. تكفيرُها وذبحها إن رفضت. تجنيدها، إن استسلمت، لخدمة غرض سياسي لا علاقة له البتة بالدين. إلهاؤها عن اعتقالها الجماعي بتوجيهها وتحريضها على رفض الثقافة الإنسانية (التنظيمات الدينية كلها بلا ثقافة ومثقفين ومفكرين)، وإكراهها على القبول بسلب حريتها الاجتماعية والشخصية والسياسية. ثم إقناعها بأن العنف والإرهاب ضد المجتمع والنظام والعالم هو مقاومة مشروعة!

هناك أنظمة لا دينية (سورية) تلتقي مع التنظيمات الدينية وغير الدينية في محاولة خلق لبس دولي كبير في تعريف المقاومة. التعريف بسيط للغاية: كل مقاومة دينية أو وطنية للاحتلال أو للنظام تسقط الحريات هي مقاومة مزيفة. هي الإكراه بعينه. هي أخيراً إرهاب وعنف غير مشروع أو مقبول.

نعم، الإسلام هو الحل. لكن بالعودة به إلى جوهره وغرضه الحقيقي. الإسلام منظومة متماسكة من قوانين ومناهج للمحافظة على الفضيلة والأخلاق الاجتماعية. الإسلام دعوة إلى سلام الروح والنفس والتسامح. المجتمع المتماسك معنويا وروحيا هو المجتمع الفاضل. هو المجتمع الحي المنفتح على المعرفة والثقافة والعلم والعمل. هو المجتمع السياسي الممارس لحريته وديمقراطيته باستقامة ونزاهة، ولا حاجة به إلى وصاية الذين يبتذلون الدين بتسييسه وتحزيبه وأدلجته.

بيدي لا بيد عمرو وزيد. النظام يساهم في تسليم المجتمع إلى ثقافة الأدلجة الدينية. بدلا من تسليم الإعلام الرسمي إلى «نجوم» المرجعية التقليدية، كان الأحرى بالنظام حماية عقل ووعي الأجيال من الاستلاب والارتهان. العالم العربي بحاجة إلى وضع منظومة موحدة لمناهج تربوية علمية وروحية تربي الأجيال على حرية الرأي والسؤال والحوار. كسب النظام العربي معركة الأمن ضد العنف الديني. يبقى أن يكسب معركة استعادة العقل والإيمان من المراجع الدينية الخفية والظاهرة التي تلهم تنظيمات الخطف الجماعي للشعوب والمجتمعات.