أمة واحدة ليست أكثر

TT

في وقت متزامن مع احتفالات عيد الاستقلال الأميركي، أصدرت إحدى المنظمات الفكرية تقريراً مثيراً للجدل يثير التساؤل حول ما إذا كانت الهوية القومية الأميركية تتلاشى تحت وطأة ضغط التنوع العرقي للسكان وتواني التعليم عن الحفاظ على هذه الهوية.

صدر التقرير الذي سلط الضوء على هذا التهديد عن منظمة «ليند آند هاري برادلي». ومن جانبي، أعتقد أنه ينطوي على قدر كبير من المبالغة، لكن مع دخول كل من باراك أوباما وجون ماكين في نقاش حول «قضية الوطنية»، ربما يكون من المفيد مناقشة هذا الأمر.

تنطلق الدراسة من ملحوظة حول الطابع المتفرد الذي تتميز به الولايات المتحدة والذي تمت صياغته في عهد توماس جيفرسون ـ والعديد من الشخصيات الأخرى الجديرة بالاحترام والتقدير خلال العصور التالية. وعمدت جميع هذه الشخصيات إلى جذب الانتباه إلى حقيقة أن الهوية القومية الأميركية، بخلاف الحال مع الدول الأخرى، تقوم على أنه «ليس هناك عرق مشترك، وإنما مجموعة من الأفكار».

وعليه، وحسبما يرى المفكرون التابعون للمنظمة، فإن «معرفة القيم التي تمثلها أميركا لا تتم عبر الموروث الجيني، وإنما يجب تعلمها من قبل كل من الجيل المقبل ومن يأتون إلى هذه البلاد. لذلك، فإن الدولة التي تقوم على أساس فكرة ما، تعاني في جوهرها من الهشاشة».

ويحوي إعلان الاستقلال والدستور الأفكار التي تقوم عليها الولايات المتحدة، حسبما شرحتها قرارات المحكمة العليا والقوانين الصادرة خلال السنوات التالية. وقد خضعت تلك الأفكار للتجربة خلال الأزمات وأوقات الحروب. والزعماء الذين قادوا البلاد خلال تلك الفترات هم أبطالنا الذين نحتفل بميراثهم الذي تركوه لنا، أمثال واشنطن ولنكولن وروزفلت.

أما ما يثير قلق مفكري منظمة «برادلي» فهو ظهور دلائل على أن جيلنا قد أخفق في تعليم الجيل التالي المبادئ الرئيسة المرتبطة بالتجربة الأميركية، حيث أوضح التقرير أنه: «في التقرير الصادر عام 2006 تحت عنوان «التقييم الوطني لمستوى التقدم التعليمي في اختبار التربية المدنية»، فشل غالبية طلاب الصف الثامن في شرح الهدف من وراء إعلان الاستقلال. ونجح 5 في المائة فقط من الطلاب الكبار في تقديم وصف دقيق للسبيل الذي يمكن للكونغرس والمحكمة العليا من خلاله تقييد سلطات الرئيس. كما ندد واضعو التقرير بغالبية الكليات والجامعات التي تسمح لطلابها بالتخرج من دون تلقيهم دورة شاملة في التاريخ وأسلوب الحكم الأميركيين.

وأعتقد أن الكثير من الشخصيات السياسية من مختلف الأطياف والتوجهات تتفق معهم بهذا الشأن. إلا أن واضعي التقرير كان لهم الكثير من الانتقادات الأخرى، علاوة على مجموعة متنوعة من المقترحات، اتسم بعضها بالتفاهة، مثل إلغاء يوم الاحتفال بالرؤساء ومعاودة الاحتفال بعيد ميلاد كل من واشنطن ولنكولن. بينما جاء بعضها الآخر مثيراً للجدل، مثل إصدار تعليمات لجميع الجامعات والمعاهد بفتح أبوابها أمام برنامج فيالق تدريب ضباط الاحتياط التابعين للجيش.

وفي ما يتعلق بأسلوب التعامل مع المهاجرين، رأى مفكرو «برادلي» خطراً حقيقياً وراء بعض الممارسات مثل إجراء انتخابات باستخدام العديد من اللغات وتخصيص فصول دراسية لمن يتحدثون أكثر من لغة ثانية، محذرين من أن محاولات الاستيعاب والدمج تلك للتنوع المتنامي داخل المجتمع الأميركي ربما تسفر عن ظهور «أكثر من أميركا، بل ربما عدم وجود أميركا على الإطلاق». واستطردوا بأن: «الجهل التاريخي وإهمال مادة التربية المدنية والتشتت الاجتماعي قد تفلح في صنع ما تعجز عنه قوة غزو أجنبية».

وبصورة مجملة، يتسم التقرير بدرجة بالغة من التشاؤم لا مبرر لها. أما الآراء التي تم الاستشهاد بها في التقرير، والتي تخص في معظمها عناصر محافظة من الحقل الأكاديمي، فقد تجاهلت الأدلة التي تؤكد استمرار وجود قدر كبير من الحيوية داخل النظام الأميركي.

وفي الواقع، ربما لا يعلم الشباب بشأن الدستور بالقدر الذي نأمله، لكنهم تمكنوا من المشاركة في مراكز الاقتراع خلال العام الحالي بأعداد قياسية، علاوة على مشاركتهم بحماس في الكثير من الحملات وإقدامهم على التطوع في مختلف الأنشطة التي تعود على مجتمعهم بالخير. في واقع الأمر، لم يراودني قط القلق حيال مدى التزام الشعب الأميركي بقيمه الأساسية منذ عام 1974. فخلال ذلك العام، واجه الشعب الأميركي أدلة دامغة حول تورط رئيسهم في مؤامرة إجرامية من داخل المكتب البيضاوي. واستجابة لذلك، عمد الأميركيون إلى تذكير ريتشارد نيكسون، الذي كانوا قد أعادوا انتخابه للتو بأغلبية ساحقة، أنه داخل هذا البلد، لا شخص يعلو فوق القانون، حتى ولو كان الرئيس، وأرغموه على ترك الرئاسة.

ولا يمثل ذلك بأي حال من الأحوال مؤشراً على أمة فقدت شعورها بقيمها أو غفلت عن المبادئ التي يقوم عليها نظامها، وهو أمر يستحق الاحتفال في ذكرى عيد الاستقلال.

* خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»