.. والمفسدون لـ (مناخ الحوار) ـ على الجبهتين ـ من يردعهم؟

TT

الحوار بين البشر سيظل ـ على أهميته ـ (ترف صالونات) ما لم يتحول إلى (سلوك) عملي يتسم بالصدق والعقلانية والمثابرة والواقعية في الحياة العملية. فما ينقص الناس ـ في عصرنا وعالمنا ـ ليس المعرفة والفهم فحسب، وإنما ينقصهم ـ كذلك ـ (الخلق العملي الرفيع).. ومن العزائم الأخلاقية التي تنقص البشرية ـ زعماء ونخبا ثقافية وعلماء دين وشعوبا ـ: عزيمة (سد الفجوة) بين القول والفعل، ذلك أن وجود هذه الفجوة لا ينتج إلا نتيجتين سلبيتين: الأولى: ضآلة ثمرات الحوار. والثانية: التشكيك في (قيمته) ومبدئيته: وفي كلّ شر.

بعد هذا التأسيس الموجز لمفهوم جعل الحوار (سلوكا عمليا) ينأى به عن اللهو والترف ـ الفكري والإعلامي ـ: ننتقل الى (الواقع) الذي يتعزز به ذلك المفهوم.

إن الزمان والمكان ليسا فراغين خالصين لمحبي الحوار، والحريصين عليه. فهناك (مفسدون لمناخ الحوار) يزدحم بهم المكان ذاته والزمان عينه:

1 ـ وتحريا للإنصاف ـ من حيث التبكير بنقد الذات ـ نبدأ بجبهتنا: نحن المسلمين.. ففي المسلمين من لا يطيق الحوار ولا يرتضيه لأنه غير مقتنع به. وهؤلاء الرافضون للحوار من المسلمين ليسوا سواء.. فمنهم من يَعُد (غير المسلمين) جميعا أعداء، على حين ان كثيرا منهم لم يظهر عداوة لا في عبارة، ولا في موقف أو سلوك. وبناء على هذا الحكم الجائر يحل هؤلاء لأنفسهم (الدعاء) على الغير ـ بإطلاق ـ. وهذا (دعاء بدعي) فيه من الظلم ما فيه، لأن الدعاء إنما يكون على المعتدي الظالم (دون تزيّد أيضا)، وهو دعاء يباح للمسلم المظلوم، كما يباح لغير المسلم المظلوم.. ثم ان في هذا الدعاء البدعي استفزازا لـ (الآخر) المسالم الذي يضطر للرد.. وبهذه الاستفزازات المتبادلة يفسد مناخ الحوار.. ومن المسلمين من يرفض الحوار لأنه يعتقد أن آيات الجهاد أو آية (السيف) ـ كما يسمونها ـ نسخت آيات التسامح والجدال والحوار العقلي السلمي!.. ومن المسلمين ـ وهم ليسوا بعيدين عن هذا الصنف الثاني ـ: من يحمل المفاهيم التالية تجاه العالم: مفهوم: ان العالم كله قد فسد وتفسخ.. ومفهوم: ان رسالة الاسلام إنما جاءت لإصلاح العالم، ودفع الظلم، ومناجزة الظالمين.. ومفهوم ان المسلمين ـ حكاما ومحكومين ـ قد تخلوا عن هذه الرسالة فوقع الجميع في الإثم العام.. ومفهوم ان هذه الرسالة لا بد أن ينهض بها قوم آمنوا بها كما آمنوا بأن العالم كله قد فسد، وأن هؤلاء القوم هم (الغلاة) أنفسهم أو (المجاهدون) ـ كما يسمون أنفسهم ـ الذين انتدبهم الله للنهوض بهذه المهمة!.. ومفهوم انه طالما ان الغاية (سامية) فلا مانع من استخدام (كل) وسيلة متاحة، ولو قتل في الطريق أبرياء، ولو سفكت دماء معصومة، ولو حدث (إفساد جزئي) في الأرض. فالفساد الجزئي واجب الممارسة إذا دُفع به فساد أعظم أو كلي!!.. وهذه مفاهيم تحولت الى (سلوك تطبيقي) تبدى في أكثر من صورة ومظهر.. والواقع يقول: إن قسطا من هذا السلوك وُجِّه ـ بحمق وفجور ـ الى غير المسلمين، وهو سلوك يفسد مناخ الحوار بلا ريب إفسادا ناجزا.. ومن المسلمين من يخاطب الغرب ـ والعالم ـ خطابا نزقا لا عقل فيه، خطابا استفزازيا مجردا من الروّية والهدوء، خطابا جلفا لا تهذيب فيه ولا سمو، خطابا فيه من التكبر والاستعلاء والتألي والحمق ما يجعل كل إنسان حر ينفر منه، ويعرض ليس عن الاسلوب فقط، بل يعرض عن الحق نفسه كذلك.. وهذا الخطاب من مفسدات مناخ الحوار والتفاهم بالتوكيد.

2 ـ على الجبهة الأخرى (مفسدون) لمناخ الحوار أيضاً.. والحق ان (التماثل) في الإفساد لا يعني (المساواة) في الحجم والقدرات والخطط والمستويات، بمعنى أن إفساد مسلمين لمناخات التفاهم والحوار إنما يقترفه أفراد وجماعات بالغة الحمق.. نعم.. ولكنها محدودة الإمكانات (ولله الحمد).. أما الإفساد الذي يمارسه الطرف الآخر، فمدّرع بوسائل متقدمة جدا، وبخطط علمية، وبمؤسسات كبرى معروفة (نمسك عن تسميتها حذرا من التورط في خدمة المفسدين لمناخ الحوار).. ففي الغرب حملة فكرية وثقافية وإعلامية وسياسية مركزة ومبرمجة ضد الإسلام، ونسارع إلى التنبيه الواجب فنقول: إننا لا ندافع عن الذين (يختانون أنفسهم) من المسلمين، فهذا النوع من الدفاع ممنوع في منهج الإسلام: «ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما».. وإنما ينصب النقد الموجه إلى دوائر غربية على أن هذه الدوائر (تتعمد الخلط بين الاسلام وبين خطايا شرائح معينة من أتباعه).. يفعلون ذلك وهم يعلمون ان هذا المقياس لن يكون في صالحهم إذا طبق عليهم، أي إذا قُدح في دين المسيح ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسبب خطيئات شرائح من أتباعه: الأقدمين أو المحدثين.

إن مئات الأفلام ـ عبر القرن العشرين مثلا ـ تعمدت تشويه صورة الإسلام، والحط من قيمته وقدره، وهي أفلام استقت الكثير من مادتها من كتابات غلاة المستشرقين الذين نشطوا في هذا الميدان في القرون الثلاثة الماضية.. وهذا مطلع يثبت أن إساءاتهم إلى الإسلام سبقت ـ بآماد بعيدة ـ أحداث 11 سبتمبر 2001. وإنما كانت هذه الأحداث النحس فرصة للتوسع الأفقي، والتركيز الرأسي من خطة الهجوم.. ولسنا نلومهم على الغضب الذي اعتراهم بعد هذه الأحداث، فمن حق الناس ان يغضبوا وأن يدافعوا عن أنفسهم إذا نزل بهم ظلم، بيد أننا نلومهم على (تجاوز) تجريم المخطئين من اتباع الاسلام: إلى تجريم الاسلام نفسه الذي أصبح ـ كتابا وسنة ورسولا ـ هدفا لسهامهم أو صواريخهم ـ بالتعبير الحديث ـ.. فمنهم من عمد إلى (تدنيس) القرآن في غير صورة، ومنهم من أخرج فيلما يتركز على الطعن في القرآن، ومنهم من طالب بـ(تعديل) القرآن، ومنهم من قال: «إن القرآن هو مصدر الشر والعنف».. بالنسبة للإسلام قال رجال دين لامعون منهم: «الإسلام دين شرير وعنيف ومعتد ومؤذ».. وعن عقيدة المسلمين في (الإله) قال مسؤول منهم: «إن إله المسلمين يحضهم على العنف وعلى قتل الآخرين، على حين أن آلهنا يفدي حياة الآخرين».. أما موقف شرائح منهم من رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فمعروفة مشهورة. فمنهم من أساء إلى هذا النبي الطيب المحب الذي قدم المسيح إلى البشرية في أجمل صورة، ومنهم من (برر) الإساءة وأصّلها بهذه التعلة أو تلك.. ويلحظ ـ ها هنا ـ: ان الاساءة إلى الإسلام صدرت من مستويات مختلفة: إعلامية وأكاديمية أو بحثية ودينية وسياسية وعسكرية «!!!».

إن ظاهرة (الهجوم الشامل على الإسلام) ليست مجرد قرائن جمعها باحث ما، بل هي ظاهرة (موثقة رسميا على مستوى عالمي أو دولي).. مثلا: نظمت جهات مختصة في الأمم المتحدة ندوة بعنوان (مجابهة التعصب ضد الإسلام) في عام 2004. وقد ألغى الأمين العام للأمم المتحدة ـ يومئذ ـ كوفي عنان كلمة جاء فيها: «كثيرا ما تشوه مبادئ الإسلام وتعاليمه، وكثيرا ما يستشهد بها في غير سياقها. هذا بالإضافة إلى إلصاق أفعال وممارسات معينة خاطئة بدين الإسلام باعتبار انها تمثل هذا الدين وترمز إليه. ويسمح في كثير من الدوائر بتجريح المسلمين ولا يجد هذا التجريح نقدا ولا استهجانا، مما يضفي على التعصب ضد الإسلام هالة زائفة من القبول.. إن الجهود المبذولة لمكافحة التعصب ضد الإسلام لا بد أن تعنى كذلك بقضية العنف والإرهاب الذي يرتكب باسم الاسلام، فلا ينبغي الحكم على الإسلام بأفعال المتطرفين. فالقلة تسيء إلى الأغلبية، ومن ثم فإن الحكم الخاطئ على الأغلبية ظلم لها. ولا شك أن الحاجة ماسة إلى ان تقوم السلطات العامة في العالم بدورها في شجب معاداة الإسلام».

لا جرم ان هذا (توثيق دولي رسمي) لظاهرة (معاداة الإسلام)، وهي ظاهرة تنشئ الحقيقة المعرفية التالية: ان استمرار معاداة الإسلام ستسمم وتفسد مناخات الحوار، كما أن نزق الاستمرار في (ذم الغرب) ـ بإطلاق ـ يؤدي إلى النتيجة ذاتها.

نخلص من ذلك إلى:

أ ـ ان (البناة) لا ينبغي أن يكتفوا بالبناء، بل لا بد أن ينتبهوا إلى (الهّدامين) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

ب ـ ان أقوى رادع لهؤلاء الهدامين: أن يتحول الحوار إلى سلوك عملي صادق ملؤه (العلم بالواقع)، ومعالجة هذا الواقع: بعدالة وجد وشرف، معالجة تجرد أعداء الحوار من كل ذريعة مفسدة.

جـ ـ أن يتحد العقلاء ـ من كل أمة ـ، وأن يتواصوا بالنضال من أجل لجم مثيري التعصب والكراهية والإفك والبهتان لدى كل طرف.