صناعة الكراهية في العالم العربي

TT

كان الاعتقاد السائد لدى الكثيرين، ان ثورة الاتصالات التي انطلقت مع الستلايت وتعززت مع ظهور الانترنيت وانتشاره، ستلعب دورا كبيرا في تقريب المسافة بين الشعوب وسيكون لها اثر توحيدي، اضافة لقدرتها على توفير ملاذات اكثر أمنا للاصوات المعارضة للحكومات وللحركات المطالبة بالتغيير والمغيبة عن الاعلام الرسمي. ولا يمكن هنا إنكار أن تلك الثورة فعلت فعلها في عالمنا العربي وكان لها اثر كبير في تغيير بعض مظاهر التعامل السياسي واحداث ضغط اعلامي اكبر على السياسيين وانتاج رأي عام أوسع، إلا انها من جانب اخر لعبت دورا في افتضاح الكثير من المثالب الخفية عن الانظار وبرهنت ان بين المحيط والخليج مشاكل اكبر واكثر استعصاء من «القضية المركزية» التي كانت في السابق مهربا تلوذ اليه الانظمة لتأجيل استحقاقات التعامل مع اشكاليات الداخل الكبيرة.

الذي تسنح له الفرصة اليوم ان يبحر لبعض الوقت في مواقع الانترنيت العربية سيجد في ما يكتب من آراء طيفا واسعا من الاختلاف كانت تخفيه البيانات الرسمية الروتينية والاعلام الرسمي المنكب على تمجيد الزعماء وتجميل انظمة وصل بعضها حدا من القبح لم يعد معه بالامكان تغيير صورته حتى بأحدث أدوات التجميل والتزويق.

الى هنا، تبدو القصة ايجابية نوعا ما، لكنها للأسف ليست ايجابية بما يكفي لإشباع تفاؤل المتفائلين، يكفي ببساطة الاطلاع على ما يكتبه القراء والزائرون لمواقع الانترنيت من تعليقات وشتائم يكيلونها لبعضهم بسبب التباين القومي او الديني او الطائفي لندرك ان ثورة الاتصالات التي فتحت فضاء جديدا وكشفت عن قبائح مستترة، سهلت ايضا بروز الخطاب القائم على الكراهية واحتقار الاخر. جوهر المشكلة ليس ثورة الاتصالات نفسها بل الإرث السياسي والثقافي والاجتماعي بما حمله وما زال يحمله من انكار لوجود الاخر فضلا عن حقوقه وآماله وتطلعاته، لا يمكن العثور في اي مكان اخر على كم من العنصرية والكراهية كذلك الذي نجده في مواقع الانترنيت العربية فضلا عن بعض وسائل الاعلام الجماهيرية التي تتجاوز الانترنيت انتشارا وتأثيرا. لقد ظلت الانظمة الشمولية والديكتاتورية تنكر وجود الاخر المختلف وتضع سياساتها بهاجس ادعاء «الوحدة» وتبوب «الاختلاف» على انه «فتنة» ولأن «الفتنة اشد من القتل» صار لزاما اخفاء الاختلاف عن عيون الناس حتى عبر ارغام «الاخر» على ان يكون نسخة منا، وهي في الغالب نسخة مشوهة، لانها نتاج الفرض القسري والتكيف السلبي.

لقد انتجت هذه الثقافة مفهوما مشوها للوطن والوطنية، لعبت الانظمة لعبة الخطر الخارجي والتحدي الآتي من وراء الحدود وبررت عبره كبت او قمع اي صوت مغاير وانتجت مفهوما للوطنية غارقا بالتجريد لا علاقة له بكرامة المواطن الذي تم اقناعه عبر الالة الدعائية ان عليه ان يستمر بتقديم التنازلات عن متطلباته الحياتية من اجل استحقاقات المعركة. صار لدينا «وطنية» بلا مواطنين. صار اعلان رأي مختلف خيانة والمطالبة بحقوق ثقافية أو دينية عمالة، والمطالبة بتقرير المصير لمجموعة اثنية او قومية مختلفة، شرخ في الوطنية والسؤال هو: لماذا نطالب الآخر الذي نقمعه وننكر عليه حقوقه ونعامله كمواطن من الدرجة العاشرة في بلدان غالبية ابنائها مواطنين من الدرجة الثانية، بأن يكون «وطنيا» وفق المعايير التي نصيغها نحن للوطنية، وما قيمة الوطنية والوطن نفسه عندما يكون مقابله التضحية بـ«كرامة وانسانية المواطن».

من المؤسف الاطلاع على هذا الاغراق في خطاب التخوين وفي وصف مجموعات ثقافية أو دينية أو قومية بشتى العبارات المهينة والمذلة واتهامات بالعمالة والخيانة، وغير ذلك من إرثنا العربي الأثير. لغة الشتائم ليست سوى تعبير عن عجزنا عن الحوار، ليست سوى انعكاس لمخاوفنا وضعف ثقتنا بأنفسنا وبالطبع ثقتنا بالآخر، ومثل هذه اللغة لن تحل أيا من اشكالياتنا، بل تمثل المهرب البديل عن مهرب الإنكار الذي أنتجته النظم السياسية قبل ثورة الاتصالات، ما عاد ممكنا اليوم انكار وجود الآخر، فصار الحل هو في شيطنة هذا الآخر، حل يعمق المشكلة والانفصال إذا ما أدركنا أن للآخر لسانا قادرا على ان يبادلنا به الشتم وقلما يجرمنا ويشيطننا، ثم بعد ذلك نعتبر رد فعله دليلا على صحة فعلنا السابق نحوه في سلسلة مفرغة من الكراهية المتصاعدة نحو ذروة أظهرها لنا اشخاص في العراق بقروا بطن رجل ووضعوا فيه رؤوس اطفاله، واخرون ثقبوا رؤوس ضحاياهم بالمثقاب الكهربائي، ليتخيل اي منا ان يكون هو او احد اعزائه ضحية لنفس الجريمة، وليدرك الجميع ان ايا منا قد يكون مرتكبها او ضحيتها طالما قبلنا ان نكون طرفا في تأجيج الكراهية.

في امريكا واوربا يعد جريمة عنصرية شتم مجموعة ثقافية او اثنية او دينية او الايحاء بانها تستحق منزلة دنيا، ورغم كل التحشيد االسلبي الذي تمارسه آلة الدعائية الاعلامية اليمينية بعد 11 سبتمبر هناك، إلا أن المواقف الشعبية لم تبلغ بعد مرحة القبول بإهانة المسلمين علنا، بل ما زال الكثير من العرب والمسلمين يلجأون الى هذه البلدان هربا من العنف او الديكتاتورية او الكراهية التي باتت اكثر تجذرا في مجتمعاتنا. هناك في اوربا جدل متصاعد حول مخاطر وجود جالية اسلامية كبيرة لا ترغب بالاندماج بالثقافة الاوربية لكنها تريد الاستفادة من امتيازات الحياة هناك، وهذا الجدل قد يتصاعد ويتحول الى اجراءات اكثر تشددا، لكنه بالتاكيد لم يصل الى تبني مواقف كتلك التي نتبناها تجاه بعضنا نحن العرب والمسلمين، تلك التي تعبر عنها ببدائية ولكن بصدق تعليقات قراء الانترنيت والاحكام النمطية السائدة عن الاخر، بما في ذلك الاخر الذي يشاركنا نفس الوطن، ونفس الحقوق المفترضة للمواطنة.

إن الكراهية سلعة رخيصة يمكن تسويقها بكثافة لان زبائنها هم الاكثر جهلا والاقل استعدادا لاستبدالها بتمرين جدي للعقل حتى يدرك ان كرهنا للآخر لا يزيحه من امامنا ولا يجعلنا اكثر شعورا بالرضا عن انفسنا، لان الحياة مع كل هذا الكم من الكراهية هي جحيم نسير اليه بعيون مغمضة، وبقلوب عمياء.