البعد الاستراتيجي في حوار الأديان

TT

مؤتمر حوار الأديان في اسبانيا هو ضرورة للعالم الإسلامي، كما هو ضرورة للغرب. في العالم الإسلامي تكمن أهمية المؤتمر في كبح جماح قوى التطرف، وفي الغرب يكون المؤتمر بمثابة جهد عالمي لمكافحة ما يمكن تسميته بالخوف غير المبرر من الإسلام والمسلمين، أو ما اصطلح عليه بالإسلاموفوبيا. إذن، الموضوع له شقان أساسيان، شق مقاومة التطرف في العالم الإسلامي، وشق آخر يناهض الإسلاموفوبيا في الغرب. وهنا تكمن الأهمية الاستراتيجية لمبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز الخاصة بحوار الأديان، وانطلاقة أولى فعالياتها من خلال مؤتمر مدريد الذي ترأسه الملك عبد الله بن عبد العزيز مع ملك اسبانيا خوان كارلوس.

وكما أن المملكة العربية السعودية هي مركز الثقل في العالم الإسلامي، لما لها من مكانة في قلوب المسلمين، فهي حاضنة الحرمين الشريفين وإلى كعبتها المقدسة يحج المسلمون، كذلك فإن اسبانيا تمثل أيضا جسرا مهما يربط جنوب المتوسط بشماله، وفيها رمزية الحوار حيث تعايش فيها المسلمون مع غير المسلمين لقرون عديدة، إلى أن جاءت نهاية الإمبراطورية الإسلامية في القرن الخامس عشر. ورغم ما لإسبانيا من رمزية في الانفتاح على العالم الإسلامي ورمزية الحوار، فهي أيضا البلد الذي نصبت فيه المشانق في فترة محاكم التفتيش، التي مثلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أعلى درجات الإسلاموفوبيا، إذ لم يكن مقبولا في تلك الفترة المظلمة من تاريخ اسبانيا أن يدين البشر بديانة أخرى غير المسيحية، وبمذهب خاص فقط من المسيحية أيضا.

اسبانيا التي كانت في أحد أزمنتها رمز التسامح والتعايش الديني، هي اسبانيا التي كانت في زمن آخر رمز الانغلاق ورفض الآخر المختلف دينيا.

مهم بالنسبة للمسلمين أن يدركوا حقيقة وليس بالكليشيهات غير المفهومة، أن الأسس الفلسفية للدين اللإسلامي تتفق مع كل من الفطرة وكذلك مبادئ الحضارة الحديثة. فالإسلام هو دين ثواب وعقاب، أي ما يعرف بلغة العصر الحديث بمبدأ المسؤولية، أي كل مسؤول عن أفعاله ونتائجها، وأن الأرض فيها حالة Accountability استخلاف ومسؤولية، مما يدعو إلى الحفاظ على هذا الكوكب الأرضي وحماية البيئة وقضايا المناخ التي تشغل بال الغرب اليوم، قضايا هي في صلب الفلسفة الإسلامية ورؤيتها للإنسان ودوره في هذا الكون. ويجب ألا نغفل عن أن المشتركات في الأصول الفلسفية بين اليهودية والمسيحية والإسلام هي أكبر من الخلافات الظاهرة،

«ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين».

أهمية مؤتمر مدريد اليوم هي في التأصيل لمبادئ الحوار وإطلاق مبادرة تهدف إلى تشارك الديانات السماوية الثلاث في تحمل العبء الأخلاقي عند ظهور الأزمات الكبرى. فكما أكد الملك عبد الله بن عبد العزيز في حديث له بأن العالم اليوم يمر بمرحلة ضبابية ناتجة عن حالة الصدام السائدة بين الجماعات العرقية والدينية والطائفية في كل أصقاع الأرض.

ورغم أهمية مؤتمر مدريد كنقطة انطلاق للحوار بشكله العالمي، إلا أن مبادرة الملك عبد الله يجب ألا تتحول إلى مجرد برنامج تتبناه منظمة المؤتمر الإسلامي أو غيرها من المنظمات البيروقراطية كالجامعة العربية. إذ لا بد لهذه المبادرة أن تفعل على مستويات عدة، وأولى هذه المستويات هي أن تذهب مجموعة الدول الإسلامية إلى الأمم المتحدة وتضغط لتبني مشروع قرار من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة أو من مجلس الأمن، مشروع قرار يقر حوار الأديان بشكل رسمي ضمن برامج الأمم المتحدة الكبرى التي تهدف إلى الترويج للاستقرار والسلم العالميين وتعزيزهما.

مؤتمر مدريد، بشكله الذي ظهر به، شمل الديانات السماوية وغيرها من المعتقدات، وبذلك تكون مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز قد مهدت لحوار الثقافات والحضارات كحوار أشمل وأوسع.

مبادرة الملك عبد الله، كما ذكرت في مقال سابق، تمثل السياق الثقافي الذي تتحرك فيه القضايا الاستراتيجية الكبرى من قضية فلسطين إلى قضية كشمير. حوار الأديان هو الداعم الثقافي والحضاري الذي سيقوي الكثير من المبادرات الدولية ويهيئ المناخ العام لإنجاحها. فمثلا، عندما يكون هناك حوار بين اليهودية والإسلام، كدينيين سماويين، فمعنى ذلك أنه بدئ في بناء الجسور الثقافية الإيجابية بين اليهود والمسلمين، مما يجعل مناخ السلام ممكنا إذا ما بذل السياسيون جهودهم. وفي هذا السياق، تكون مبادرة الملك عبد الله لحوار الاديان هي الإطار الأرحب والأوسع الذي يحتضن مبادرته للسلام العربي الاسرائيلي. إذا فهم الغرب هذه المبادرة بعمقها الكبير، فإن الافق سيكون مفتوحا لفهم أوسع للمشاكل القائمة بين الغرب والمسلمين.

مبادرة الملك عبد الله لحوار الأديان هي أيضا السياق الثقافي ذاته الذي تضطرب فيه قضية المسلمين والمواطنة في بلاد الغرب. عندما زار العاهل السعودي المملكة المتحدة، ألقى كلمة مهمة فى العشاء الذي أقامته على شرفه ملكة بريطانيا. في هذه الكلمة، نصح الملك عبد الله المسلمين في الغرب أن يكونوا مواطنين صالحين في بلدانهم الجديدة. وبذا يكون الملك قد لخص في كلمته القصيرة أزمة الغرب مع من يعيشون فيه اليوم من المسلمين، وهي أزمة المواطنة. حوار الأديان لا بد أن يكشف مساحات من الفهم المتبادل ويلغي مسافات من سوء الفهم وأحيانا سوء النية بين مسلمي الغرب ودولهم.

مبادرات الملك عبد الله كل متكامل. من تأسيسه للحوار الوطني في الداخل السعودي، بكل أبعاده بما فيها قضية المرأة والشيعة، إلى رعايته للحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني في مكة، وكذلك دعوته لحوار بين السنة والشيعة في العراق، إلى مبادرته التاريخية للسلام بين العرب وإسرائيل، إلى دعوته الأخيرة لحوار بين الأديان. مبادرات الملك تنم عن فكر استراتيجي شامل يؤمن بالحوار ليس مع الداخل فحسب، بل حتى مع الخارج، صديقه وعدوه. وهذه حالة نادرة في الذهنية العربية التي لا يكون عادة فيها الحوار هو الصيغة السائدة أو المطروحة.

الدين اليوم هو الموضوع المنسي في سياسات الدول، ويجب أن يلتفت إليه ليس كعنصر مؤجج للصراع وإنما كعنصر مساهم في الاستقرار. فلولا الاسمنت الاجتماعي الذي يقدمه الإسلام لمدن إسلامية كبرى مثل القاهرة والدار البيضاء وغيرهما من العواصم العربية التي تفتقر إلى التنمية الاقتصادية ويطغى عليها الفقر والبطالة والإحباط، لتحولت هذه المدن إلى بؤر للجريمة والدعارة والمخدرات مثل براويليا أو سان باولو في البرازيل وغيرهما من المدن المرعبة.

تفعيل مبادرة الملك عبد الله بن عبد العزيز على المستوى الدولي، وعلى مستوى الدولة الواحدة أيضا، وربما داخل الدين الواحد، يمثل ركيزة استراتيجية لعالم مضطرب.. لذا فالبناء على هذا المؤتمر ضرورة ملحة.