الجميع أمام تحدي «تبريد» الأجواء مع المحافظة على الثوابت

TT

حتى لو قضت أصول اللباقة بتغاضي أفرقاء النزاعات الإقليمية والمحلية في الشرق الأوسط عن الشعور بالإحباط، فإن هذا هو واقع الأمور الذي يجب الإقرار به.

اليوم نسمع همساً عن «تبديل في الأولويّات»، وأحياناً عن «إعادة تموضع». وثمة مَن يتكلم عن «تغيير السلوك» كبديل عن الحاجة لتغيير الأنظمة.

كباراً وصغاراً، راديكاليين ومحافظين، عرباً وعجماً، «ممانعين» و«متعايشين»، تراهم يسيرون في اتجاه «تبريد» الأجواء.. إما ترقباً منهم حدوث شيء ما، أو نتيجة لملاحظتهم اختلالاً في المعطيات أو شكاً في نيّات من كانوا يراهنون عليهم.

وفي هذه الأثناء، العالم يسير ولن ينتظر إلى ما لا نهاية. وحتى أولئك الذين خدّروا شعوبهم بعدما غسلوا أدمغتها فما عادوا يخشون منها مساءلةً ولا حسابا، يدركون أن لا شيء يمكن ان يبقى على حاله إلى الأبد، وسبحانه وحده المغيّر الذي لا يتغيّر.

هنا يبدو كم كان باهظاً خطأ الإدارة الأميركية المودِّعة في رفضها نصح أصدقائها، وأيضاً في إهمالها التفاصيل الدقيقة لمشروع عداء حضاري مسلّح وأخرق على مستوى العالم كله.. كالمشروع الذي أسمته «الحرب على الإرهاب».

أما زلنا نتذكر عبارة «تحالف المُريدين» Coalition of the Willing التي استخدمها الرئيس جورج بوش «الابن» أمام الرأي العام الأميركي لتسويق حملاته التي لم تحظ بإجماع أو تأييد دولي واسع؟ ألا نتذكر أي دول تلك ذات القدرات القتالية الحقيقية وافقت على أن تكون في عداد «المُريدين» باستثناء بريطانيا.. وبدرجة أقل إسبانيا وأستراليا في عهدي حكومتيهما اليمينيتين السابقتين؟

هذا النوع من الحملات، «الأحادية» أساساً، ما كان يحظى بتأييد عريض حتى في الدول الحليفة لواشنطن. وكان بديهياً أن تتعالى اصوات الاعتراض، وأن ينفرط عقد «التحالف» عندما يؤدي تجاهل «شيطان» التفاصيل إلى أخطاء جسيمة، كما حدث في أفغانستان والعراق.

ثم إذا كان بديهياً اعتراض مَن هم محسوبون في خانة «الدول الحليفة»، فكيف بـ«الدول المعادية» أو «المنافسة»؟ بل كيف عندما تتعامل واشنطن مع دول بحجم الصين وروسيا كما لو انها من دول «العالم الثالث» فتبتزّها اقتصادياً و«إنسانياً» وأمنياً من دون أن تقيم وزناً لتحفظاتها أو تأبه لتحسّسها من قضايا تعتبرها مصيرية؟

إزاء هذه الخلفية، ومع العد التنازلي لعهد الإدارة الحالية، أمام الرئيس بوش فرص محدودة لتغيير الحقائق على الأرض ما لم تحصل مستجدات مفاجئة.

فهو - أولاً - لا يستطيع دستورياً الترشح لفترة ثالثة، وثانياً يتعذّر عليه قبل أشهر معدودات من الانتخابات الرئاسية المقبلة زجّ أميركا في مغامرة جديدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مع أنه ربما يودّ لو يورّط الديمقراطيين ـ إذا كسبوا «البيت الأبيض» ـ بسيل من المشاكل المعقدة. وهذا يعني أن المجالين الوحيدين المفتوحين أمامه بين اليوم ومطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل هما: أولاً، تحسين فرص فوز المرشح الجمهوري جون ماكين أمام منافسه الديمقراطي باراك أوباما. وثانياً، السعي لمنع خسارة الجمهوريين السيطرة على مجلسي الكونغرس حتى إذا تغلّب أوباما على ماكين.

الشخصيات «المعتدلة» في الحزب الجمهوري ترى أن أفضل خدمة تقدمها الإدارة لماكين هي إبعاده عن «إرث» بوش حتى لو رغب ماكين بالتشدّد اعتزازاً بماضيه العسكري. ومن هنا يجوز قراءة المقاربة الجديدة لوزارة الخارجية الأميركية -ـالتي هُمِّش دورها إبان صعود ساسة البنتاغون ـ للملف النووي الإيراني.

حتماً، المسألة غير محسومة بالمطلق. لكن الثابت أن مقاربات التيار «البراغماتيكي المعتدل» في واشنطن تعيش أياماً طيبة الآن، على الأقل، لطمأنة الناخب الأميركي إلى أنه لا نية للغرق بمغامرة خارجية أخرى غير محسوبة العواقب. وهذا، مع أن أميركا «قوة عظمى» تتحمل نكسة من هنا وأخرى من هناك بعد مغامرات خارجية أكثر طموحاً مما ينبغي.

إيران، في المقابل، تقرأ هذا الوضع بعناية. وهي أيضاً بينما تناور وترفع صوتها، توجّه رسائل غير مباشرة رغبةً بالحوار. وهنا كذلك، ثمة تمازج بين استراتيجية كسب الوقت لتحقيق الهدف الثابت من جهة، وتكتيك طمأنة من لا حاجة لإثارة غضبهم من جهة أخرى.

ثم هناك إسرائيل و«اللوبي الإسرائيلي» الناشط أميركياً وأوروبياً. إسرائيل لديها هواجس أمنية، قد تكون تلك التي تُكثر التكلم عنها وقد لا تكون، لكنها تبقى هواجس أمنية مفهومة يُمليها الاحتلال والقمع المتطاولان والهروب الدائم إلى الأمام والسعي للمحافظة على انسجام مجتمع فيه العديد من عوامل التفسخ والاستقطاب الثقافي والعرقي. وهي أولاً وأخيراً تقاتل عدواً لا يرحم اسمه «الديموغرافيا».

بعض الساسة الإسرائيليين ـ وأصحابهم ـ يحاولون إقناع العالم بأن ثمة أملاً بفرط «التحالف» الراهن بين إيران وسورية، وبأن إيران وامتداداتها «عدوّ» زنيم لإسرائيل. غير أن نجاح هذا الرهان يعني فتح معركة بين سورية «ما بعد الممانعة» والملتزمين بـ«التحرير» الذي هو أساس «شرعية» التوسّع الإيراني في العالم العربي. وعند هذه النقطة قد تصبح «النبرة المعتدلة» المستجدة عند «حزب الله» اللبناني أقرب إلى الفهم. فذكريات قدامى «الحزب» ما زالت حية بالنسبة للتعامل السوري القديم معه، وهذا إذا نُسي الغموض المحيط حالياً باغتيال الحاج عماد مغنية.

أما بما يتعلق بـ«التبريدين» الشيعي ـ السني والشيعي ـ الدرزي اللذين حملهما الأسبوع الفائت للبنان فهما يندرجان، ويجب أن يندرجا، ضمن الحاجة إلى الذهن المفتوح وحفظ خطوط الرجعة من دون التفريط بالثوابت المتعلقة بمشروع «الدولة». والأمل وطيد بأن تكون قوى «14 آذار»، بكل مكوّناتها الفئوية والطائفية، التي خذلتها مراراً خلال السنتين الأخيرتين قناطير الدعم الكلامي الفارغ قد نضجت تجربتها، وغدت أكثر إدراكاً لثوابتها وأدرى بعالم المصالح ورياح المساومات العاتية، بفضل تنوعها التنظيمي وتلّون منابعها الفكرية . وليس على الرغم منهما.