وحي إلهي في مؤتمر مدريد

TT

نزل عليها الوحي وأنا أجاذبها أطراف الحديث، في مطعم الفندق مع قيادات دينية أخرى في المؤتمــر العالمي للحوار في مدريد، فبعد أن شخصت ببصرها إلــــى السمــاء، قالت هــذه الــسيدة الأمريكـــية أو الزعيمة الدينية (ربي للتو تحدث إلي)، وشرعت تسرد تفاصيل هذا الوحي، ويبدو في نظرها أن ما جرى عبارة عن «مداخلة إلهية» في مداولات مؤتمر مدريد صدرت من ربها، الذي تحدث إليها (تؤمن بألوهية عيسى)، ولم يسعفني الوقت لأستمع إلى مداخلة الرب البوذي، والذي يجلس أحد كهنته في الطرف الآخر من الطاولة، سألتها إلى أي الطوائف المسيحية تنتمي؟ فردت بأنها لا تنتمي إلى دين ولا طائفة، وأنها تحب عيسى المسيح، وتلتزم بالوصايا العشر فحسب.

ذكرني دعواها بالتواصل مع الوحي الإلهي بأن هذه الدعوى كانت أحد أسباب المصائب والكوارث، التي حلت بمنطقتنا، فكارثة العراق حلت بوحي إلهي مزعوم إلى الرئيس بوش، والمناصرة البريطانية العمياء لأمريكا في احتلالها للعراق، جاءت ايضا بوحي إلهي للحليف البريطاني، لكنه هذه المرة بدرجة أقل من الوحي المباشر الذي «شرف» به بوش، فتوني بلير حظي به فقط عن طريق الرؤيا، فقد قال له ربه إنه بالمشاركة في احتلال العراق قد اتخذ القرار الصحيح، وأقل الناس معرفة بالأديان يعرف المقولة الشهيرة المنسوبة للمسيح والتي تطلب أن تدير خدك الأيسر إذا صفعك أحد على خدك الأيمن، فنقل المحافظون المتصهينون الجدد هذه المقولة، ولأسباب دينية من الصبر على صفعات الأفراد، إلى المبادرة بالصفع الجماعي للشعوب والدول وتدمير مقدراتها.

مثل هذه التفسيرات المتطرفة من أتباع الديانات المختلفة والتي بدأت تقود العــــالم وتجره إلى صراع بين أتبـــاع الديانات والحضارات كانت إحــدى بـــواعث الدعوة إلى تنظيم مؤتــمر الحــوار العالمي في مدريد، والذي وجه إلى عقده الملك عبد الله بن عبد العزيـــز بجرأة لافتة، وأدار دفته باقتدار الدكتور عبد الله التركي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.

كان المؤتمر لوحة تشكيلية تطرزها الألوان المبهرة ليس للأجناس البشرية المختلفة من الداكنة السواد إلى شديدة البياض، وما بينهما من ألوان بشرية متدرجة، بل لألوان وأشكال المعتقدات ومعتنقيها، فمن سيخي لم يقص شعر رأسه ولحيته مذ كان يافعا، حتى بدا شاربه من كثافته مغريا للطير أن يعشش فيه، إلى كاهنة بوذية حلقت شعر رأسها فنافس بريق صلعتها لمعان ثريات الفندق، أما «أبو اللافتين الذي سرق أنظار المؤتمر، فكان زعيما دينيا هنديا أصلع كان لا يستر من نصفه العلوي، إلا ما أحاط رقبته بقماش برتقالي زاهٍ، وقد كان يحمل عصا مدببة كأنها الرمح أشبه بفارس في ساحة الوغى على وشك منازلة دموية، والكل في المؤتمر يتحشرج في صدره سؤال: قد استوعبنا تعرية الجسم وصلع الرأس، لكن لماذا الرمح؟ كان أحد هؤلاء المتسائلين الصديق الدكتور أحمد الدبيان مدير المركز الإسلامي في لندن، لكنه لم يجرؤ على سؤال الكاهن الهندي، إما خشية الحرج، أو ربما خشية الرمح!

ليس باحثا محترفا كنت اتمنى مشاركته في المؤتمر العالمي للحوار في مدريد، مثل العلامة ابن حزم الأندلسي، أظن أنه لو حضر معنا في مدريد، سيقرر حينها أن يحول كتابه الشهير (الملل والنحل) إلى موسوعة، بسبب تكاثر الملل والنحل من بعده، وتشرذم عقائدها وانشطارات مذاهبها، ولله في خلقه ودياناتهم ومذاهبهم وعقائدهم شؤون.

[email protected]