23/7/1952: أيضا وأيضا!

TT

لا أظن أن جيلي، مواليد الثلاثينيات من القرن الماضي، سوف يغفو لحظة عن يوم 23/7/1952، وكلما مر هذا التاريخ بذاكرتنا لم يسعنا، ما دام الله قد مد في أعمارنا، إلا أن نقول، لنشهد على سنوات عشناها. وبما أنني واحدة من هؤلاء الذين شاء الله لهم في عمر مديد يمكنني من الوعي الكامل بمشواري «كمواطنة مصرية» مع 23/7/1952، الذي يبلغ غدا 56 عاما، يحق لي أن أجلس لأتساءل هل23/7 هو احتفال بعيد ميلاد لحي لا يزال قائما بيننا أم هي ذكرى لرحيل حلم، وهم، سراب؟

كان هناك من عادى، ولا يزال يعادي، 23/7/1952 لأنها أزاحت الملكية عن مصر، وطبقت الاشتراكية، ودعت إلى الوحدة العربية، وتناطحت مع الغرب والتغريب لصالح رفع شأن الهوية المصرية..إلخ.

وكان هناك من عادى، ولا يزال يعادي، 23/7/1952 لأنها ضحكت على الذقون ولم تزح الملكية بشكل كامل، ورفعت شعارات العدالة الاجتماعية ولم تحققها، ونادت بضرب الإقطاع وأعطته المبررات ليبدو مظلوما، وأصدرت القوانين الاشتراكية وخالفتها، ودعت إلى القومية العربية ونسفتها، وقامت أساسا لتحرير فلسطين ودحر الكيان الصهيوني، الذي لم يكن قد مر عليه سوى أربع سنوات حين قامت 23/7/1952، وتصحيح أخطاء هزيمة العرب عام 1948 فلم تفعل شيئا سوى تدعيم ذلك الكيان بالانهزام أمامه في الحرب وفي اتفاقيات السلام معه، وضربت الهوية المصرية والعربية في مقتل حين سارت مع تيار العلمانية، فلم تبلغ بها شرقا ولا غربا وإن خلخلت دعائم الروح الإيمانية وشجعت السفهاء على التقافز فوق أكتاف المؤمنين، والأهم أنها انتقدت تجاوزات «العسكري الأسود» و«البوليس السياسي» في العهد الملكي ثم ابتكرت آليات في القهر والتنكيل بالمواطنين بدا معها ذلك العسكري الأسود وذلك البوليس السياسي ملائكة من نفحات الجنان!

ما زلت أذكر ذلك الصباح، الساعة الثامنة والنصف، والمذياع يعلن بصوت محمد أنور السادات زوال العهد الملكي الفاسد، الذي سيظل اسمه «العهد البائد» لفترة لا بأس بها، وقيام «العهد الجديد» و«الحركة المباركة»، وذلك بتنازل«فاروق» عن العرش لوليده «أحمد فؤاد» ومغادرة البلاد، وصوت المذيع جلال معوض المطجن يهلل: وقد «طفضل» جلالته فوافق على المطلبين.

كانت النتيجة المعلقة فوق مكتبتي الصغيرة تحمل صورة الملك فاروق، ولم أتردد في تخزيق عينيها وخدش ملامحها تعبيرا عن تأييدي الكامل لكل هذه الأخبار «السعيدة»، مندمجة تماما في صيحات الفرح التي عمت الشارع وانطلقت من الكبير والصغير والوقور والمندفع والمتحفظ والمتهور.

كان باقيا على عيد ميلادي الخامس عشر في17/8/19 52 ، خمسة وعشرين يوما، ولدي دفتري الذي أسجل به أحوال البلاد ونشاط الفدائيين ضد معسكرات جيش الاحتلال الانجليزي على خط القناة ـ الدفتر بحوزتي حتى الآن ـ الإجازة الصيفية في منتصفها وأنا ناجحة منقولة إلى السنة الرابعة، وكان اسمها شهادة الثقافة العامة وهي سنة قبل شهادة التوجيهية التي تتمم الدراسة الثانوية لدخول الجامعة.

أكمل الإجازة الصيفية مع الجيشان الشعبي الفرحان، متمنية لو قابلت مدرس التاريخ، إبراهيم عبد الواحد، بروحه المهزومة، الذي كان قبل شهور قليلة يضرب حماسنا مع المقاومة الفدائية ضد الانجليز وهو يتهكم قائلا: «اتلهوا على عينكو، إنجليز إيه اللي انتم فاكرين شوية عيال على القناة ممكن يطردوهم، إنتم تساووا حاجة من غير الإنجليز؟ ده حتى الإبرة بنبعت ناخدها من عندهم».. كنت أريد أن أواصل تحديه بقولي: «شفت؟ إيه رأيك بقى؟!».

أمي التي تلبس السواد منذ وفاة أبي، 4/4/1944، أراها تضحك لأول مرة، تقف، بدون قواعدها الصارمة، تلوح معنا لمواكب «الضباط الأحرار» أو «الفتية الذين آمنوا بربهم» فزادهم هدى، كما أطلق عليهم وقتها سيد قطب. وقائدهم صاحب الوجه الطيب الباش محمد نجيب، الذين يمرون يوميا من تحت شرفتنا بشارع العباسية بسيارات مكشوفة وبلا حراسة سوى حراسة الجماهير التي تتلقاهم بشلالات هادرة من الحب والهتاف.

مع التصعيد بزوال الغمة والبغي والقهر والفساد يقوم عمال مصانع كفر الدوار للغزل والنسيج بمظاهرات ضد الإدارة التابعة لـ«العهد البائد» يوم الثلاثاء12/8/1952 ، بظن تأييد «العهد الجديد»، ورئيسه الطيب البشوش وفتيانه لنهضتهم المحتجة على «البائد» والمؤيدة بحماس لـ«الجديد» ولكن.. وتدق الفجيعة قلبي الصبي يوم عيد ميلادي 17/8/1952 بصدور أحكام بإعدام العاملين الشابين الفقيرين المعدمين، كحال معظم الشعب الحالم بالخلاص، خميس 18 سنة، والبقري 19 سنة، وأبكي بانتحاب ولا أصدق ما يقال عن خيانتهما لـ«الثورة» وأخشى حينئذ أن أقابل أستاذ التاريخ إبراهيم عبد الواحد حتى لا أرى في وجهه الشماتة والبرهان على خيبة الأمل.

عندما قامت حركة 23/7/1952 لم تكن مصر أرضا نائمة أيقظتها هذه الحركة، ولم يكن المصري مكسور العين مطأطئ الرأس محتاجا لمن يصيح به : «ارفع رأسك يا أخي.. قد زرعت فيكم العزة والكرامة»، تلك التي قالها عبد الناصر في لحظة فزعه، لا والله، لا وألف لا، كان وراء مصر والمصريين السجل الطويل من المقاومة والفدائية والعزة والكرامة التي لم تكف عن احتضان كل هبة وطنية ترفع راية «الجلاء بالدماء» و«نموت نموت ويحيا الوطن». كانت مصر حبلى بالثورة وبالتمرد معا، وكانت خارجة من مظاهرات الأربعينيات متلمظة ضد القصر والانجليز ومخاتلات الأحزاب السياسية والهزيمة القاسية على أرض فلسطين، متهيئة للوضع والميلاد، بعد طول انتظار، راجية الانطلاق إلى فجر عصر جديد، ولذلك عندما سبقت حركة الضباط كل التكتلات الوطنية الأخرى إلى إعلان الخروج على الأوضاع الفاسدة وعلى الوضعية السياسية، التي كانت شرعيتها السياسية قد انتهت في أذهان الناس حتى قبل سقوطها، التف حولها الشعب مسقطا عليها كل أحلامه الثورية التي تشوق إليها طويلا خاصة بعد مرارة الهزيمة في فلسطين عام 1948. وفي غمرة الحماس الشعبي الذي تبنى حركة الضباط ولقبها بـ«الثورة»، لأنه كان يريدها كذلك، لم يكن بوسع أحد أن يقف ليراقب بدقة مواقف هذه الحركة الجديدة، بل على العكس وافق الحماس الشعبي على أن يقوم، بوعي منه أو بلا وعي، بدور المبرر لكل الأخطاء التي ارتكبتها هذه الحركة منذ الشهر الأول لإمساكها الزمام في مصر، هذه الأخطاء التي وصلت في حالات إلى درجة الخطأ الفادح وفي حالات أخرى إلى درجة الجريمة النكراء، ثم بلغت في نهاية جولتها درجة درجة درجة.. درجة ولا حول ولا قوة إلا بالله.

منذ البداية اتخذت تلك الحركة سياسة: ذبح كل الاحتمالات الواعدة التي كان يمكن أن تشرئب من بين صفوف الشعب المصري لتحاسبها أو تناقشها أو تفضحها وتقول لها: مكانك لقد خدعنا فيك ولست أنت أمل مصر ولا صيغة خلاصها. وحين بدأت الخلافات تقع بين أعضائها لم يكن بينهم بطل أو شهيد، فالظاهر البادي أمامنا الآن أنهم جميعا كانوا سواء: «يتخاصمون إذا المآرب عطلت، فإذا انقضين فلا خصام ولا مرا»، ولا أرى نفسي تأسف على محمد نجيب أو تفرح بانتصار جمال عبد الناصر عليه، فلا يوجد لدينا مبرر واحد يؤكد لنا أنه لو انتصر محمد نجيب وحاز السلطة لما فعل الأفعال الديكتاتورية التي كانت النهج الذي اختاره عبد الناصر وبلوره وأجاده منذ انفراده بالسلطة عام 1954 معتمدا معه سياسة سرابية، تغذي الأحلام، وتداعب المشاعر دون أن يجد حلم سبيله للتحقيق على أرض الواقع.

مع انفراد عبد الناصر بالسلطة لم تعد هناك عمليا، حركة ضباط، إذ تمركزت الحركة والثورة بل ومصر كلها في شخصية الفرد الفارس الآسر الزعيم الأوحد جمال عبد الناصر، وتولد ربما لأول مرة التعبير الشرير«من البديل»؟ والبدائل العظيمة تسحق دوريا بالمشانق والتعذيب والاعتقالات التي لا تنتهي. استمر الصعود المتنامي لشخص عبد الناصر الذي أحبت الجماهير العربية أن ترى فيه أملها المنشود، خاصة بعد قرار الوحدة مع سوريا عام 1958، هذا القرار الذي تم، كالعادة، بأمر فردي مباغت ومفاجئ، ومع ذلك ساندته كل القوى الوطنية العربية. وتسجل سنوات (1959 ـ1960) تأميم الصحف، حتى 1961 أوج الصعود لشخص عبد الناصر مجسدا بشعاراته أماني وأحلام الأمة، خاصة بعد أن أعلن سياسته المتجهة نحو ما أسماه «الاشتراكية العربية». مع ذلك الصعود لشخص عبد الناصر كان هناك الهبوط لسعر الشعب المصري وقيمة الفرد فيه.

وبما أن لكل عملة وجهين، فإن خمر السلطة وكرباج القمع تمكنا من عزل عبد الناصر تماما حتى عن موقع قدميه حيث أصبح لا يرى، وتحت وطأة منهجه في تعبيد شعب مصر، الذي حاول ممثلوه أن يقرروه على شعب سوريا، كسرت الوحدة بين مصر وسوريا في عام 1961 وكان هذا الكسر هو الهزيمة الأولى الواضحة لعبد الناصر بعد أن صار اسمه يعني كل شيء . وبدلا من أن يراجع عبد الناصر سياساته ورجالاته وحواريه والطبقة الجديدة، التي صارت بفسادها تنافس فساد العهد الملكي، لكي يقف على الأسباب التي تكالبت على الوحدة وكبدت الجماهير العربية خيبة أمل محزنة أدت إلى التراجع نحو التعصب القطري لكل بلد عربي، وقف يعلق كل الأخطاء على مشاجب خارجية، متعاميا تماما عن أسباب كانت مسؤوليته فيها مباشرة، معتمدا على، ومستغلا، مكانة الحب الهائلة التي كانت تضعه في قلوب الجماهير العربية المصرة على ألا تتبدد أحلامها. واحتمى عبد الناصر بعد هزيمة الانفصال عن سوريا خلف قوانين 1961 الاشتراكية التي ألهت طبولها ومزاميرها وأفراحها الناس عن رؤية الأخطاء والأخطار الكامنة في سياسة عبد الناصر الفردية السرابية ومنهجه القمعي، وقد أدى تأثيرهما فيما بعد إلى تعطيل كل القوانين الاشتراكية عن فعاليتها المثمرة، فلم يذق منها الناس إلا شدتها ومرارتها ولم يفلحوا في الوصول إلى حلاوتها.

وهكذا، كما تشوهت الخطوات نحو الوحدة العربية، تشوهت الخطوات نحو العدالة الاجتماعية، وظل الشعب العطشان يلهث وراء قطرات من حقوقه في خدمات التعليم والعلاج والمواصلات ولا يكاد يبلل حلقه، وبعد 56 عاما نلتفت لنرى «الفقر والجهل والمرض» كما هي مشكلاتنا، ولنسمع الوعود كما هي وعود الكذابين، ولنرصد المجيء والذهاب والدوار وقد تقلصت قضية تحرير فلسطين من احتلال1948، إلى تحرير الأرض المحتلة 1967، إلى...إلى...إلى...وإنا والله لمحزونون...وتنتهي المساحة المتاحة، وبقية الكلام والشهادة في كتابي: «الخديعة الناصرية، شهادة مواطنة مصرية على سنوات عاشتها»، الصادر بالقاهرة عام 1982.