اعتقال كاراديتش: «وراك.. وراك.. والزمن طويل!»

TT

خبر الأسبوع الكبير، اعتقال رادوفان كاراديتش، زعيم المليشيات الصربية الفاشية في البوسنة في التسعينات استجابة لأمر قضائي من المحكمة الجنائية الدولية صدر قبل سنوات لاتهامه بجرائم ضد الانسانية.

اعتقال كاراديتش، بعد ان ظل هاربا، مختبئا في أحضان القومجيين الصرب لاكثر من 12 عاما هو انتصار متعدد الابعاد. انتصار مفهوم العدالة الدولية في نظام عالمي جديد يسود فيه القانون على الجميع، ويدحض فكرة رفض عدالة مصدرها «الغرب» الاستعماري كشعار يحتمي وراءه ساسة طلبتهم المحكمة لجرائمهم ضد الانسانية.

القول المصري «وراه والزمن طويل» اثبتته يد القانون التي طالت كاراديتش بعد سنوات اختبائه بين اخوانه الآيديولوجيين.

«برافو» للمحكمة الجنائية الدولية، فكل طاغية مطلوب للعدالة، وكل طاغية ينتظر دوره، سيطير النوم من عينيه مما يثلج صدور من قض الطغيان وزوار الفجر مضاجهم طويلا..

وما سيقض مضاجع الطغاة، هو سابقة اعتقال كاراديتش، وقبله اعتقال رئيس ليبيريا السابق تشارلز تايلور وعدد من زعماء وساسة ديكتاتوريات منهارة. كما ان المحكمة حسمت الامر ببطلان دفاع رئيس حكومة او سياسي بأنه لم يحمل سلاحا او يلقي بنفسه القنابل. فالسياسي مسؤول عن خلق الجو الآيديولوجي الذي أشعل نار الشر في قلوب من نفذوا المذابح والتطهير العرقي. واذا كان مسؤولا في حكومة فمسؤوليته مباشرة عن الجرائم.

المحكمة الانجليزية رفضت احتماء داعية الشر ومنظره، ابو حمزة المصري، وراء المبدأ المشروع بحرية التعبير كخطيب مسجد يجهر برأيه، وألقته في السجن، لانه غرر بشباب نفذوا دعوته بحذافيرها فذهبوا لليمن لخطف الناس وقتلهم.

وتعليمات حسن البنا، زعيم ومؤسس الجماعة الاخوانجية في مصر، «خلصونا من هذا القاضي» عام 1931 تجعله في نظر البعض شريكاً في جريمة قتل القاضي احمد بك الخازندار لان بعض اتباعه من الاخوان المسلمين نفذوا حكمهم في القاضي برميه بالرصاص أمام منزله. ولحسن حظ البنا وقتها ان بعض شهود واقعة التخلص من «هذا القاضي» كتموا الشهادة تنفيذاً لفتوى اخوانجية جعلت الكذب أمام المحكمة «فرضاً» عليهم و«جهادا في سبيل الله» وبئس «الجهاد». ولو كان قانون اليوم سائداً عام 1931 لاعتبر تعليمات البنا دليل ادانة لوضعه وأمثاله وراء القضبان وكان العالم قد ارتاح من آيديولوجيتهم وجف مستنقع الفكر الشرير الذي ترعرع فيه امثال ايمن الظواهري واسامة بن لادن، وكان العالم مكانا افضل.

نجاح المحكمة الجنائية الدولية في فترة 15 سنة فقط من انشائها هو انجاز للانسانية يثبت ان العالم في طريقه الى عصر جديد يكون القانون فيه «وراء الطغاة والزمن طويل».

اعتقال كاراديتش انتصار لسياسة اوروبا في استخدام الضغوط الديبلوماسية والاقتصادية لفرض القانون الدولي.. استراتيجية اوروبا سبب خلاف مع امريكا التي تستخدم هراواتها الغليظة في تدمير بنيان الخصم لاخضاعه، ثم توظيف امكانياتها الاقتصادية لاعادة بناء ما هدمته الهراوة الغليظة. الاتحاد الاوروبي استمر في الضغوط الديبلوماسية وحقق نوعا من الانسجام بين البلدان الاوروبية في موقف موحد علق التعاون الكامل مع صربيا المتعطشة لعضوية الاتحاد الاوربي حتى يتم تسليم المتهمين المطلوبين لمحكمة لاهاي، كاراديتش، وراتكو ميلاديتش، القائد العسكري المسؤول عن أبشع مذابح حرب البوسنة في التسعينات.

ورغم وجود تيار قومجي يميني قوي في صربيا، نجحت ديبلوماسية اوروبا وضغوطها في ترجيح كفة ميزان الصراع السياسي في بلغراد لصالح التيارات الليبرالية الديموقراطية في الحكومة. لم تر هذه القوى في تسليم كاراديتش للعدالة ربحا اقتصاديا وحضاريا بعضوية الاتحاد فحسب، بل رأته تطبيقا لمبادئها السياسية بسيادة القانون والديموقراطية.

ولو كانت اوروبا لجأت للاستراتيجية الامريكية العسكرية، لدعمت قوى التيار القومجي الصربي الفاشي وتراجعت القوى الليبرالية.

وفي قصة كاراديتش عبرة من خطورة الآيديولوجيات القومجية الفاشية التي ستعمل دائما على عرقلة سيادة القانون. فعجز حكومة الصرب عن اعتقال كاراديتش بعد سقوط سلوبودان مليوسوفيتش يعبر عن قوة التيار القومجي الفاشي داخل البلاد. والتغير في قيادة المخابرات الصربية قبل اسابيع فقط، هو الذي غير التوازن وأدى إلى القبض على كاراديتش.

فكاراديتش، ولا شك ايضا ميلادتيش، كانا في حماية قطاع من الجيش والمخابرات.

وكثيرا ما ترى قطاعاً مهماً من اجهزة الدولة، لايزال اسير آيديولوجية قديمة، تدفعه لاتخاذ إجراءات يراها صموداً قومجياً، وهي في الواقع تخرب المصالح القومية للبلاد. اجهزة المخابرات والأمن بطبيعتها تخشى الديموقراطية وتكره سيادة القانون لانها تعرقل من سيطرتها على الناس، وتضع ضباطها في موقع المحاسبة امام ممثلي الشعب.

وكم من رجل اعمال مصري مثلا يتعرض لخسارة تجارته واستثماره بسبب عرقلة نشاطه من جانب تيارات داخل المخابرات واجهزة الدولة لا تزال ترى في تعامله مع شركات او بلدان تعتبرها آيديولوجيا «من الاعداء» خيانة رغم ان لمصر علاقات ديبلوماسية وتبادل سفراء مع هذه البلدان. والنتيجة خسارة البلاد لملايين، ربما مليارات من الاستثمارات، حيث «يطفش» المستثمر من التعامل معهم ويوجه استثماراته الى اسواق اخرى. وهنا كانت بلغراد اكثر نضجا بتخليها عن مجرم حرب مقابل فوائد اقتصادية طويلة المدى.

وكاراديتش وميلادتيش ليسا ظاهرة قاصرة على البلقان، وانما هما ظاهرة للايديولوجية الفاشية التي تتخذ اسلوب القتل الجماعي والتطهير العرقي في حالات البلقنة الاقليمية عندما تسنح الظروف التاريخية في اي مكان في العالم.

فرئيس صربيا الراحل ميلوسوفيتش الذي مات اثناء فترة محاكمته الطويلة في المحكمة نفسها التي يتطلع قفص اتهامها لاستضافة كاراديتش وميلياديتش كان مثالا لمدى تأثير الديكتاتورية القومجية الفاشية على تطلعات الاقليات، وبالتالي ارتفاع حدة البلقنة.

جرائم الثلاثي ميلوسوفيتش، كاراديتش، وميلاديتش، نموذج مصغر لجرائم صدام حسين وعلي (الكيماوي) حسن المجيد، في الابادة الجماعية ضد الاكراد والتطهير العرقي في حملة الأنفال.

ظاهرة البلقنة سببها اضطهاد مجموعة عرقية على يد جماعة متسلطة بآيديولوجية شمولية، فتطالب الاولى بالاستقلال الذاتي فور ان تسنح الظروف السيا/تاريخية. المنطق بسيط ولماذا نظل اقلية عندكم اذا كنا نصبح اغلبية بالاستقلال عنكم؟».

فعندما سنحت الظروف بفرض منطقة الحظر الجوي في العراق، أسرع الاكراد باعلان حكمهم الذاتي هربا من عقود من الاضطهاد وجرائم حلبجة ومذابح التطهير العرقي.

مساعدة المحكمة الجنائية الدولية على اداء مهامها بتسليم المطلوبين في جرائم التطهير العرقي واخرى ضد الانسانية لمحاكمتهم، سيكون ضامنا لتماسك الامم والبلدان الكبيرة المكونة من عرقيات مختلفة كوحدة منسجمة، لأن الزعماء القومجيين الفاشيين سيفكرون مرتين قبل اخضاع العرقيات والثقافات الاخرى لآيديولوجياتهم القومجية بالقوة، اذ عرفوا ان المحكمة الجنائية الدولية ستظل «وراهم والزمن طويل».