بقاء الصراع.. يعني بقاء الآيديولوجية الخمينية

TT

الأصولية الخمينية مثلها مثل أصولية «القاعدة» أو الاخوان المسلمين ليست إلا بناءً فكرياً وعقيدياً مؤسساً على الدين، بمعنى آخر الأصولية ليست إلا رؤية أو قراءة بشرية عقلية تفسيرية للواقع والدين، يحولها الأصولي إلى آيديولوجية دينية ويعتقد جازما أنها الدين ذاته، وما عداها فهو باطل وكفر. والآيديولوجية الأصولية في عمق فكرها وسلوكها لا تؤمن بالآخر، والآخر هو من لا يتوافق مع رؤيتها الأصولية ومصالح أصحابها، فالمسلم السني مثلا الرافض لمنطق «القاعدة» في صراعها مع العالم، هو كافر، والمسلم الشيعي الاثنى عشري الرافض لأصولية الخميني ولولاية الفقيه، وكل مسلم لا يؤمن بالإمام الغائب حتى وإن كان من شيعة آل البيت كافر. الأصولية مهما ادعت أنها تقبل حرية الرأي والتفكير وتداول السلطة في مراحل ضعفها، فإنها تخادع الآخر ليس إلا. فالثورة الإيرانية نفت كل القوى الوطنية، بما في ذلك الأصوليات التقليدية، وأسست لديمقراطية زائفة لا تقوم على التعددية حتى بالمفهوم الإسلامي المتشدد ناهيك من معناها الحداثي، بل هي ديمقراطية مذهبية ذات الاتجاه والتفسير الواحد أنها ديمقراطية الفقيه الولي المسيطر على كل شيء وممثل الإمام الغائب والملهم منه وصاحب السلطة الإلهية، وديمقراطية الفقهاء في جوهرها تؤسس للاستبداد بأعلى معانيه، حيث يصبح الفرد راضخاً كليا لإرادة ووصاية الولي الفقيه ومصالحه.

الأصوليات لا يمكن أن تؤسس للحرية والانفتاح ولا يمكنها أيضا أن تعيش بلا صراع مع واقعها الداخلي والخارجي، لان الصراع طريق لإخفاء تناقضاتها، ووسيلة فعالة لحماية البناء الفكري من النقد. كما أن الصراع يقوي من الطرح المتطرف ويساعد النخب على فرض إرادتها ويقوي من تماسكها ويشد من أزر المتبنين للفكر في أوساط الجماهير.

ويمكن القول إن عنصر الصراع في بنية الفكر الثوري الخميني الأصولي يمثل روحه وأساس بقائه، وتلعب الغيبيات دوراً بارزاً في إذكاء حالة الصراع والمواجهة، فالقضية لدى المهووسين بالآيديولوجية الدينية لم تعد مرتبطة بالحاجات الواقعية للناس، فالواقع بكليته ذو بعد وظيفي لتحقيق الغاية، والغاية هي منظومة من الغيبيات المهيمنة على الايديولوجيا والغيبيات هي أساسها وبغيرها تفقد قيمتها، وتفرعات الآيديولوجيا المختلفة مرتبطة بقوة بالإمام الغائب وعصر الظهور، فالحكومة الإسلامية وسلطات ولاية الفقيه المطلقة وتعمير قوة الدولة وتوسيع نفوذها ونشر القيم الثورية ومساعدات الاتباع والموالين والمناصرين وإقامة العلاقات وشبكات المصالح، كل ذلك محكوم بالغيبيات.

البناء الآيديولوجي هش لا يحميه إلا الصراع، ولذلك فقد حقق المثقفون وبعض رجال الدين المتنورين بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية حراكا سياسيا وثقافيا إيجابياً لصالح العصرنة في وقت قصير، ومع فوز الإصلاحيين، أصاب الذعر كهان الفكر من المحافظين، فالنافذة التي فتحها ابن الثورة خاتمي والمتحالفون معه من الإصلاحيين، أصاب أصولية رجال الدين في مقتل، وبدأت الكثير من المفاهيم في الأصولية المتشددة تفقد بريقها، والطرح الجديد الذي قدمه الاصطلاحيون لم يخرج عن شرعية الثورة، ولكنهم قدموا طرحا عقليا حاولوا من خلاله إعادة بناء الأصولية الخمينية برؤية تجديدية منفتحة. وهذا النقد نتيجة عقلانيته وتحرر أصحابه من الهوس الآيديولوجي فقد أصاب الآيديولوجيا كليتها، وبدأ الشك يشمل حتى المفاهيم الجوهرية المؤسسة لشرعية الثورة ورجال الدين كولاية الفقيه، ورغم سيطرة المحافظين على مفاصل القوة المادية والفكرية في الدولة، إلا أن سياسات الانفتاح وحرية الفكر كانت كفيلة بتفجير الايديولوجية الثورية من الداخل، خصوصا الافتراضات الفلسفية الخمينية والغيبيات القائمة عليها والتي تشكل قلب الآيديولوجية الخمينية.

التجديدات الخمينية كما هي في حقيقتها، حسب الطرح الإصلاحي، ليست إلا نظرات فقهية اجتهادية قابلة للمراجعة، إن لم يكن لصالح رؤية مرنة منفتحة على العصر، ولصالح الرؤية التقليدية للمذهب الكفيلة بتحرير السياسة من هيمنة الدين فكرا ونخبة والكفيلة بمعالجة نزوع إيران الصراعي مع العالم. كهان الآيديولوجية الخمينية لم يجدوا لحماية مصالحهم إلا الكبت والخنق وحصار العقل وإسكات كل المحاولات النقدية، بإغلاق الصحف ومنع طباعة الكتب ورمي المخالفين في السجون وممارسة الاغتيالات المنظمة للنخب الفكرية في التيار الإصلاحي.

إلى ذلك ولتحمي نفسها النخبة الدينية والسياسية المتطرفة، فقد تبنى المحافظون إستراتيجية ذات بعدين:

البعد الأول، ممارسة تعبئة سياسية ضد الإصلاحيين وتصويرهم كخونة وعملاء للغرب، ومهدِّدِين لمصالح الدولة الإسلامية وتصفيتهم من كل مؤسسات الدولة ومحاصرتهم في المجتمع.

البعد الثاني، في الإستراتيجية توسيع دائرة الأعداء لحماية الآيديولوجيا من الانهيار، فالآيديولوجية المتطرفة إن لم تجد عدوا خارجيا أو داخليا، فإنها تدخل في حالة حرب مع نفسها. ووجدت النخبة المحافظة في ملفها النووي ومحو إسرائيل من الخارطة طريقها لحماية نفسها من مشاكلها الداخلية. والملاحظ أن الصراع الراهن على الملف النووي للمحافظين أعاد قوتهم وصورهم في الداخل مدافعين عن الدولة ومصالحها في وجه الأعداء، وساعد أيضا على إسكات المعارضين والمتحدين لنظرية ولاية الفقيه، لذلك نرى أن التشدد الإيراني ربما يصبح استراتيجية للمحافظين لدفع الآخر لمحاصرتها وربما مواجهتها عسكريا؛ فضرب المفاعلات النووية سيقوي من هيمنتهم ويجعلهم قادرين على مواجهة أي تحدٍّ لشرعيتهم الداخلية. وهنا لا بد من ملاحظة مهمة فالآيديولوجيا مراوغة ومخادعة ولا تفصح عن مكنونات حركتها، لذا فإنها تفرض هيبتها وهيمنتها من خلال استغلال مشاكل الواقع، وتوظف تناقضات الواقع لصالح أهدافها، فالهيمنة الأمريكية والغطرسة الإسرائيلية، متناقضتان مع الحاجات الفعلية للواقع العربي والإسلامي، لذا فالتعبئة هنا تنطلق من هذا البعد، ولكن في حقيقة الأمر أن الآيديولوجيا ليست مهتمة في العمق بحاجة الواقع العربي أو مصالح إيران الفعلية، فالهيمنة الأمريكية ـ الصهيونية على هذه المنطقة يتناقض مع حاجة دولة ولي الفقيه والنخبة وأحلامها الغيبية. فأزمة الأصولية الخمينية اعتقادها الجازم أن معاركها هي معارك إلهية، وأن بقاء حكم رجال الدين ونظامهم بقاء للدين ذاته، وأن النصر النهائي حتمي، وهذا الهوس الديني الأصولي يمدها بالإصرار على المواجهة الدائمة، وعندما يقدم صانع القرار الإيراني تنازلات أثناء الصراع، فالهدف حماية النظام والإعداد لمعارك قادمة، فمثلا وعد الخميني الإيرانيين بالنصر على العراق ولكنه قبل قرار مجلس الأمن وقف إطلاق النار، وبدأت النخبة المحافظة تصدر ثورتها نحو الخارج، وتعيد بناء القوى التابعة لها في الدول الإسلامية، وبعد سقوط نظام البعث في العراق، وظف المحافظون احتلال العراق لدعم فكرهم الديني واعتبروا سقوطه تحقيقا لوعد الولي الفقيه وعقابا إلهيا لأنه حارب الثورة، وان الله انتقم من صدام بيدي من دعموه. ولأن الصراع مطلوب دائما لدى الأصوليات، فإن العنف جوهري في سلوكها وبدونه تنعدم قدرتهم على التغيير ومواجهة الأعداء، والملاحظ أن الصراع هو مصدر شرعيتهم؛ لذا فالسلم يفقدهم شرعية الوجود وهذا التعاظم لفكرة الصراع والمواجهة قتل السياسة وجعلها حالة من الحرب الدائمة. وهذا يجعلنا نرى أن ولي الفقيه في حالة خضوعه للغرب في الملف النووي حماية لكيان الدولة ومصالحها، فإن عنصر الصراع في الآيديولوجية الخمينية سيجعلها ـ في حالة السلم ـ تتجه نحو فكرة تصدير الثورة لبث الحركة والتحفيز الداخلي من خلال التصدير الذي هو في جوهره حالة من الصراع لأن فكرة التصدير تقوم على فكرة أساسية؛ محورها أن النظام الإسلامي لولي الفقيه هو النظام الشرعي الوحيد في العالم، وكل الأنظمة الأخرى العربية والإسلامية غير شرعية وإسقاطها مدخل أساسي لتهيئة العالم لظهور المهدي. «ولاية الفقيه» نظرية إقصائية للآخر، والصراع جوهري في بنيتها.

وفي الختام قد يرى البعض أن الآيديولوجية الأصولية الدينية رغم أنها محترفة في خداعها في الدفاع عن مصالح من يمثلها إلا أن التجربة تؤكد أن الصراع حتمي في بنية الأصوليات لأنها غالباً ما تكون حاسمة في طرحها ومتهورة في دفاعها عن مصالحها كما أنها تربط بين الحق المطلق ونفسها بحيث تغدو مصالحها هي مصالح الدين وإرادتها متقاربة إن لم تتطابق مع الحقائق الدينية التي هي إرادة الله سبحانه وتعالى، وهذا ما يجعلها تدير صراعاتها مع الآخرين بقوة وحسم، وتدير مساوماتها السياسية بنزعة متطرفة، وعندما يدير التفاوض شخصيات مؤمنة بأطروحاتهم الأصولية، فإنهم لا يقدمون التنازلات ويتجاهلون الواقع، وعادة ما تبالغ الأصولية في تحديها، وهي تحمي مصالح النخب ويدفعها هوسها بالنصر الإلهي إلى تفضيل المواجهة، فالاستشهاد والتضحية طريق النصر كما تؤكد أصولية الخميني.