جولة «أكاديمية» سورية في الربوع الأميركية!

TT

ما زال البعض ـ رغم كل ما جرى ويجري ـ يستغرب أمرين متصلين بالسياسة السورية: الأول، قدرة الحكم السوري على الصمود في عصر ما يسمى بـ«الأحادية الأميركية»، والثاني «صبر» قوى غربية يفترض أنها جزء مكمل لـ«الأحادية الأميركية» على «الراديكالية» المروّج لها رسمياً في دمشق.

الواقع أن هناك تفاسير تبدو مقنعة لـ«صمود» دمشق و«ممانعتها»، ولصبر بعض الأميركيين ومناصري واشنطن على «راديكاليتها». منها على سبيل المثال وجود ثقة في عواصم القرار الغربية ـ وتل أبيب أيضاً ـ بأن شعارات كـ«الصمود» و«الممانعة» مجرد كلام للاستهلاك المحلي والهيمنة على ساحة حساسة في منطقة تمور بالراديكاليات الأصولية. ومنها الاطمئنان إلى أن «المزايدة» لا تضرّ البتة عندما تكون الغاية القصوى منها قبض ثمن أعلى لتأدية خدمة ما هنا وهناك في مقدّمها حماية حكم قاعدته الشعبية محدودة. ومنها اقتناع القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً بالاستراتيجية الحقيقية لحكم أثبت بالدليل القاطع منذ خريف 1970 أنه يعرف تماماً ما هو مطلوب منه ... فكانت «خطابيته» الفوقية في واد ... والتزامه بالكثير من الواقعية السياسية في أداء الخدمات المجزية لأهل السطوة الإقليمية في الوقت المناسب في واد آخر.

هذه التفاسير، وغيرها، مفيدة جداً لإجراء قراءة صحيحة ليس فقط لجولة الوفد «الأكاديمي» السوري إلى واشنطن، بل لمسلسل الاتصالات السرية والعلنية، المباشرة وغير المباشرة، الشخصية وغير الشخصية الجاري منذ بعض الوقت مع إسرائيل. فأحد أعضاء الوفد ـ الذي اعتبره أستاذ قانون دولي سوري بالأمس على إحدى الفضائيات العربية «وفداً أكاديمياً يقوم بجولة عادية» (!) ـ يشرف علناً على مركز دراسات استراتيجية في دولة يوجد فيها ـ علناً أيضاً، سجناء رأي سياسيون ـ ، وهو ما يعني ضمنياً أنه لا يستطيع إجراء اتصالات سياسية وجولات خارجية في دول تعدّ حكوماتها «معادية» لدمشق من دون إذن رسمي على الأقل.

ثم أن الكلام المنقول عن أفراد في الوفد ينمّ عن أنهم «يمونون» على السلطة ويتمتّعون بهامش لا بأس به لوصف علاقاتها الإقليمية، كما أنهم منسجمون في التفكير مع أولويّات الحكم كما تعبّر عنها افتتاحيات وسائل الإعلام السورية الرسمية المرئية والمسموعة والمقروءة. ولئن كان كثيرون قد توقّفوا قبل أيام عند كلام جريء لأحد الذين ربطت الشائعات بينه وبين المفاوضات مع الإسرائيليين حتى قبل الكشف عن وجود الوساطتين التركية والروسية، فإن أحد أعضاء الوفد الدكتور سامي مبيّض قدّم مطالعة لافتة تحت عنوان «سورية ولبنان، أكثر من مجرد جارين» بتاريخ 15 يوليو (تموز) الجاري لخدمة منظمة «سيرتش فور كومون غراوند» (البحث عن الأرضية المشتركة) التي ترعى الجولة الحالية. والمثير في المطالعة «الأكاديمية» أنها تنسف عملياً كل الكلام المنمق لأركان الحكم في سورية حول اعتراف دمشق بلبنان بلدا سيدا مستقلا ابتداء من الرئيس بشار الأسد وانتهاء بوزير الخارجية وليد المعلم. أما خاتمة المطالعة التي تبحر بتصرف في العلاقة بين البلدين منذ 1920 (عند رسم حدود لبنان الحالية) فتختصر أجمل اختصار كل منطقها عندما تقول: «... من وجهة النظر السورية، ما زال الغرب عاجزاً عن فهم أن ما فعلته (دمشق) في لبنان ليس على الإطلاق تصرفاً أخرق أو مخجلا، بل أن الدخلاء يعبثون بـ(شؤون) سورية (الداخلية)!».

شرح من هذا النوع يحثّ على مراجعة الخطاب القومي في موضوع «واقع التجزئة» الذي حفظه أفراد الوفد الكريم عن ظهر قلب منذ أيام المدرسة. والحقيقة التي لا خلاف عليها أن «التجزئة» كانت كارثة على العرب، وبالتالي يجب أن تكون عملية إعادة توحيد الأمة هدفاً لكل عربي لديه الحد الأدنى من العزة والكرامة. ولكن، بخلاف الشق الإنشائي من هذا الخطاب القومي، نرى أن الممارسات كانت تؤدي الغاية المعاكسة تماماً.

فمنذ وُعدت الجماهير السورية بـ«الوحدة» بعد «القضاء على مؤامرة الانفصال» عام 1961 تعزّزت داخل سورية وخارجها كل نزعات التنافر والتفرقة الفئوية. بل أن حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي طمح إلى توحيد بلاد العرب من عُمان إلى موريتانيا مروراً بإريتريا، أخفق رغم تولّيه السلطة في كل من سورية والعراق في إبطال مفاعيل خط الحدود المصطنع لـ«معاهدة سايكس ـ بيكو» التي فصلت سورية عن العراق، بل حوّل البلدين إلى بلدين متعاديين لبضعة عقود!

وحتى داخل لبنان حيث طبّق الوجود الأمني السوري مفاهيمه لـ«الاخوّة» على امتداد ثلاثين سنة، فإنه خرج منه والبلد أكثر تمزقاً وتشتتاً... وشكّاً ـ حتى لا نقول كفراً ـ بكل أشكال الأخوة والوحدة.

مشكلة اللبنانيين، والعرب أيضاً، مع «الاخوة» في دمشق أنهم لا يريدون أن يفهموا أن «القومية» يستحيل أن تحيا وتزدهر في غياب احترام حقوق الإنسان، مع أن العالم عايش تجربة الاتحاد السوفياتي التي جاءت بعد إحدى أعظم الثورات في التاريخ، وتعلّم أن القوة وحدها لا يمكنها جمع القلوب... بل ان ما يجمعها الاحترام المتبادل ومناخات التفاهم والمصلحة المشتركة.

أما مشكلة اللبنانيين والعرب مع المستعجلين على «إعادة تأهيل» الحكم في دمشق فهي أن هؤلاء يغلّبون الغايات الآنية والمشبوهة على المصالح البعيدة المدى لشعوب المنطقة، وعلى رأسها الشعب السوري. فسورية أغلى على اللبنانيين والعرب بكثير مما هي «غالية» على قلب إسرائيل و«اللوبي» الإسرائيلي في واشنطن وباريس، وهذا قضية أصلا لا تحتاج إلى بحث. وإذا كان خبراء دهاليز العلاقات العامة في «أيباك» متحمّسين اليوم لتمرير صفقة تسويقية تحت ستار «فصل دمشق عن طهران»، حبذا لو يتنبه العرب كلهم، وعلى رأسهم الفلسطينيون، للثمن الباهظ الجاري التفاهم عليه لإعادة رسم خريطة المنطقة.