البشير بين حق «السيادة» وحق «التدخل»

TT

لا البشير ولا صدام أدركا أن العالم قد تغير. الثقافة ليست ضرورة محتمة للسياسي والمسؤول. لكن لا بد من أن تكون هناك فكرة عامة لديهما حول تطور العلاقات الاجتماعية داخل الدولة التي يحكمانها، وحول تطور العلاقات الدولية في العصر الحديث.

الثورة الإلكترونية أشاعت ديمقراطية الخبر والصوت والصورة والدعاية. اختصرت العالم بكرة صغيرة. منحت مادونا وشاكيرا وهيفاء ونانسي وهنيبعل القذافي وابن لادن... نفوذا وشهرة قد تفوق قوة وشهرة المسؤول والسياسي.

بل جردت ثورات الاتصال الالكتروني المتلاحقة النظام السياسي من ملابسه. تركته عاريا أمام مواطنيه والعالم. ديمقراطية الإخبار شكلت رأيا انسانياً عاما متعاطفاً أو كارها. هذا الرأي العام الدولي بات من القوة بحيث يفرض مبدأ «التدخل» على مبدأ «السيادة والاستقلال».

أعود هنا بسرد سريع لازدهار مبدأ «السيادة».

ازدهر المبدأ بنشوء الدولة القومية، بعد السقوط المدوِّي للامبراطورية الرومانية «المقدسة» المتحالفة مع الكنيسة. ظل المبدأ سائدا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولد نظام دولي جديد يجنح إلى تأييد مبدأ التدخل في شؤون الدولة المستقلة والنظام السيادي، من خلال شرعية شرطي دولي (مجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى).

لم تعد الدولة حرة ومستقلة تماما. بات القانون الدولي (جملة المعاهدات والمواثيق الثنائية والجماعية) فوق القانون الوطني والمحلي. غدا المواطن العادي مواطنا دوليا. ميثاق حقوق الانسان وفر له حقوقا وضمانات انسانية.

بعد حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت) جدد بوش الأب الدعوة لترسيخ مبدأ «التدخل» الدولي، على أساس ان الحدود ليست إطارا مقدسا يمنح النظام المحلي حرية مطلقة في اضطهاد مواطنيه وإيذاء جيرانه، من دون مساءلة دولية. لكن الأب لم يلاحق صدام إلى بغداد. منحه فرصة 13 سنة لتحسين سلوكه مع مواطنيه وجيرانه. جهل صدام بتطور مفهوم العلاقات الدولية أحبط محاولة «الرفيق» سعدون حمادي وحكومته من إقامة ديمقراطية عراقية تعددية في أول التسعينات.

في مواجهة اندلاع العنف الديني، أرسى بوش الابن مبدأ التدخل بالقوة خارج إطار الشرعية الدولية (الأمم المتحدة). بل حاول قلب النظام العربي (الصديق والعدو) بحجة ان الاستقرار الموفِّر لتدفق النفط لم يعد رادعا للعنف. لكن فشل بوش في العراق وأفغانستان أحبط مخطط غلاة المحافظين الأميركيين لتشكيل «شرق أوسط جديد» حسب هواهم. استفادت مصر والسعودية من التعثر الأميركي، فأحبطتا مشروع «التدخل» لفرض الإصلاح بـ«ديمقراطية الفوضى الخلاقة». كانت الرؤية السعودية/المصرية (على أساسها قام المحور الثنائي) حكيمة: هذه الفوضى ستوصل قوى دينية متشددة إلى السلطة أكثر عداء لأميركا والغرب، وأشد قمعا للحريات السياسية والاجتماعية. بالإضافة، هناك قوى إقليمية (إيران) تستغل رفض بوش فرض حل فلسطيني عادل على اسرائيل، لتفرض بدورها «حق التدخل» لتأجيج صراع مذهبي بين العرب.

في ظروف الضغط الأميركي المتعثر والتدخل الإيراني الناجح، ابتعد الموقفان المصري والسعودي عن مشروع إدارة بوش «الإصلاحي». غدا الخلاف علنيا بين مصر مبارك وأميركا بوش حول حق السيادة وحق التدخل. السعودية طرحت حلا عربيا على أساس السلام في مقابل الأرض. بل قدمت مشروعا لتطوير الجامعة العربية (2004) من خلال تنسيق السياسات العربية لمنع «التدخل» الخارجي، ولتوسيع المشاركة السياسية داخل الدولة العربية.

غير أن النظام العربي عاد الى التباطؤ في تقديم وتحقيق مشروع إصلاحي ذاتي، ربما بسبب انهماكه في مكافحة العنف الديني الذي كان المعطل الحقيقي للديمقراطية، وبسبب شكوكه في ديمقراطية القوى الدينية والسياسية المتحالفة مع إيران.

النظام الليبي هو النظام العربي الوحيد الذي غيَّر من دون أن يتغيَّر. مارس رأس النظام أدب التوبة والاستغفار بعدما رأى ما حل بصدام العراق ومُلاّ أفغانستان. صالح النظام الغربي. تخلى عن مشروعه النووي. دفع غرامة باهظة عن إسقاطه طائرات الركاب المدنية. منح «بونات» النفط لشركات الغرب الشرهة. تحاشى النظام بسرعة مدهشة «التدخل» الخارجي، من دون أي تغيير في حقه «السيادي» بالتصرف بمواطنيه. بل بات النظام عائليا صرفا. الأولاد يحكمون ويتصرفون بالنيابة عن الشعب: سيف الإسلام للخارجية. الساعدي للشباب والرياضة. هنيبعل للسياحة.

المحروس هنيبعل مضاد لجماهيرية أخرى، جماهيرية هيفاء ونانسي. هنيبعل صورة سلبية لعُرْيِ نظام عربي. التمسك المصطنع بـ«كرامة» العرب أمام عنصرية الغرب، هو الذي يدفع النظام «السيادي» لتجنيد ليبيا كلها، لمعاقبة زرافة أوروبا السويسرية التي تجرأت ودست عنقها الطويل في ممارسة الولد لحرياته ولذائذه السياحية.

البشير طبعة أخرى (بضم الهمزة) لنظام آخر مدافع عن كرامة العرب «السيادية». الأسلمة المعتدلة للنظام بعد إقصاء فقيهه غير المعصوم (الترابي) لم تمنعه من ممارسة حريته في معاقبة مواطنيه، وفي مخالفة شرعة الإسلام في المساواة بين مسلمي دارفور، عربا وأفارقة.

لم يعرف نظام البشير كيف يستغل موارد النفط والاستثمار الخليجي (الذي أحدث فورة اقتصادية في السودان) في تحقيق تنمية اقتصادية بشرية. ترك التصحر، مثلا، يزحف مع ميليشيا النظام (الجنجويد) الرعوي على ما تبقى من خضرة زراعية لأشقائهم السود في جنوب دارفور.

سكت النظام عن الخلع غير المشروع لمجتمع وطني مسلم من أرضه وسلامه وأمنه. بل تحدى «التدخل» بممارسة حرية «السيادة» في توزير المتهم أحمد هارون. ها هو حق التدخل يتجاوز هارون ليصل إلى رأس النظام، من خلال شرعية القضاء الدولي.

لا يمكن المزايدة على النظام العربي في مطالبته بـ«ديمقراطية» خطرة على السلام المدني والاستقرار الاجتماعي، في ظروف محلية واقليمية غير ملائمة: ممارسة إيران لـ«حق التدخل» غير المدعوم بالشرعية الدولية، لانتهاك سيادة العرب واستقلالهم، وفي ظروف غيبة الوعي الشعبي والاجتماعي بالحرية، حتى لدى القوى القومية، «المؤتمر القومي العربي» لا يستحي من الدفاع عن صدام، بل يدعو الى «تحالف استراتيجي» بين العراق وسورية وإيران!

أقول لست مزايدا في هذه الظروف البائسة وغير الملائمة لإرساء ديمقراطية حقيقية، انما أمارس حقي المشروع، كمواطن عربي عادي في «التدخل» لمطالبة النظام بالانفتاح على الناس. بالتواصل المباشر معهم. بالاستمتاع بنكهة الحوار مع البسطاء والمظلومين والعاديين. باستقبالهم في دوائره. في مكاتبه. في دواوينه. في قصوره. في أحزابه. يسمع. ويستشير. يتعاطف.

الترهل وطول البقاء أغلق الأبواب. الخوف من العنف والنسف لم يمنع الإرهاب. لكن منع الأبرياء. منع الناس العاديين من الاقتراب. من اختراق حواجز الحرس والحجاب والمساعدين والحاشية. هؤلاء لا يبالون بقيمة التواصل الانساني بين الحاكم والمحكوم في غيبة مؤسسات ممثلة لضمير المجتمع.