محاور الصراع والارتهان بين إيران ولبنان

TT

قال نائب رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران، إنّ لبنانَ سيرتاح إذا استجابت الولايات المتحدة لمطالب إيران! وفي اليوم نفسِه صرّح محمد رعد النائب عن حزب الله في البرلمان اللبناني، تعليقاً على التجاذُبات بشأن البيان الوزاري للحكومة اللبنانية العتيدة: إنّ هؤلاء القوم (يعني نحن) يتجاهلون الواقعَ والمعادلات الجديدة، والتركيبات والترتيبات الإقليمية والدولية. إنهم يعرفون أنهم لا يستطيعون رفض مطالب المقاومة، خضوعاً لإرادة الولايات المتحدة وإسرائيل، ذلك أنّ لبنان المُقاوِم هو في محور المواجهة للولايات المتحدة وعملائها!

وهكذا، ولأنّ الإشارات والغمغمات ما عادت كافية، قال الإيرانيون وحلفاؤهم في لبنان عَلَناً إنّ بلادَنا تحولت إلى «رهينة» أو ورقة بيد إيران، وهي ترجو من وراء ذلك استعمالَها في مواجهة الولايات المتحدة من أجل المُساومة على النوويّ وغيره. وبذلك ما عادوا محتاجين للزعْم بأنهم إنما يحتفظون بسلاحهم من أجل مقاتلة إسرائيل عندما تهاجم لبنان، أو لأنهم يريدون تحرير فلسطين (!)، بل إنهم إنما دخلوا إلى بيروت بالسلاح، وسرّعوا الاضطراب في طرابلس والبقاع، من أجل السيطرة على القرار الأمني والعسكري والسياسي، ليقولوا بعد ذلك للعرب وللدوليين: الموضوع ليس موضوع إسرائيل، بل هو الابتزاز للعرب، والمُساومة مع الولايات المتحدة. من أجل ذلك، ما عادت «المقاومة» مقاومةً لإسرائيل، بل هي مقاولةٌ مع أميركا، أو مُراهنةٌ على استعدادها لعقد صفقة مع إيران باستعمال ما تعتقد إيران أنه تجمع لديها من أوراق في لبنان والعراق وغزّة. وها هي إيران تحاولُ الإفادة من مشكلات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، كما أفادت من احتياجاتها إبّان هجومها على المنطقة. في سنوات الهجوم الأميركي بعد العام 2001، تعاونت إيران مع الغُزاة في أفغانستان والعراق مباشرةً، ومن خلال أنصارِها (حزب الوحدة الشيعي بأفغانستان، وحزبي الدعوة والمجلس الأعلى بالعراق والأكراد)، فتخلصت من نظامَين مُعادَيينِ لها هنا وهناك، ومدّت نفوذَها في هاتين الدولتين. وفي زمن الجزْر الأميركي كشفت إيران عن قوة امتداداتها في العراق ولبنان وغزّة، وها هي تعرضُ على الأميركان الأوراقَ التي تملكُها في هذه المواطن، عساها تُفيدُ في الصفقة الكبرى التي تبحثُ عنها في النوويّ وفي غيره. فحزبُ الله استطاع من قبل وفي حرب تموز 2006 الإضرار بإسرائيل، وكسْب شرعيةٍ إضافيةٍ في الداخِلَين اللبناني والعربي- وكلُّ ذلك الآن موضوعٌ على الطاولة، وقد صار كلُّ شيءٍ واضحاً. ولبنانُ هو الساحةُ الرئيسيةُ للنفوذ الآن. فغزة وحماس واقعتان بين إسرائيل ومصر، ولذا فإنّ الاستخدام محدود الفائدة فضلاً على أنه غير مؤكَّد. وفي العراق فاجأ الحزبان الشيعيان الحاكمان إيران بالتعاوُن مع الجيش الأميركي في ضرب مواقع النفوذ الإيراني. وما زال النفوذ الإيراني من العراق، لكنّ المُغامرة بالاصطدام صارت صعبة، لأنّ أنصار إيران لا يستطيعون إزعاج الولايات المتحدة بمفردهم بما فيه الكفاية، ولأنّ هنالك خَطَراً في اضطرار إيران للدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش الأميركي على حدودها، إن أصرَّتْ على استخدام العراق. وهكذا لم يبق غير حزب الله بلبنان، والذي تحرك ضدّ الداخل اللبناني، وهدَّد بقاءَ النظام، وتحدّى السُنّة، وهم الطرف الوحيد الباقي في مواجهته. والمُغامرة هنا محسوبةٌ أيضاً. إذ ما عاد ممكناً التحرش بإسرائيل بعد حرب تموز، خشية ردّ الفعل الإسرائيلي العنيف، ولأنّ القوات الدولية والجيش اللبناني موجودان على الحدود الجنوبية للبنان؛ فما عادت هناك خطوط تماسّ ظاهرة. وبذلك يصبحُ الرهانُ واحداً ووحيداً: القبض على عُنُق النظام اللبناني بالقوة العسكرية، واتخاذ النظام وأهل السُنّة رهائنه للمساومة عليهما مع العرب الكبار، ومع الولايات المتحدة. وخشيةَ سوء الفهم أو التجاهُل، نبّه نائب الرئيس الإيراني، ونبّه النائب عن حزب الله إلى الترتيبات والمعادلات الجديدة: لبنان في أيدينا، فلا يتوهّم أرباب النظام، ولا زُعماء السنة أنّ بوسعهم خرق المُعادلة سياسياً، ما دام الحزبُ قد حسم الأمر عسكرياً بتحييد الجيش اللبناني، والقبض على التجمعات الشعبية والسياسية السُنّية، وضبط حركة الحكم اللبناني بالتمركز بالثلث المعطِّل في حكومة الوحدة الوطنية أو الاستضعاف الوطني!

بيد أنّ هذا المنطق الذي نجح في الحرب الباردة، ونجح لدى النظام السوري، لا ضمانات لنجاحه الآن. إذ ما الذي سيدفعُ الولايات المتحدة للاستجابة أو حتى الالتفات أو أَخْذ هذا الأمر بالاعتبار عند التفاوض مع إيران؟ هل هو الحرصُ على النظام اللبناني؟ إسرائيل صارت آمنة، وهي تستطيعُ الدفاعَ عن نفسِها إذا لزِمَ الأمر. ومن المصلحة للولايات المتحدة ولإسرائيل انقسام الفلسطينيين، وانقسام اللبنانيين، وازدياد التوتُّر بينهم إلى حدود الحرب الأهلية. والإسرائيليون يتحدثون الآن بلسانَين، فيقول وزير الدفاع الإسرائيلي إنّ الحزب يخالف القرار الدولي رقم 1701، ويقول إنّ سورية – التي تفاوضُ إسرائيل منذ عام - ما تزال تزوّد حزب الله بالسلاح. أمّا اللسان الآخر فيقول: حزب الله ما عاد يشكِّل خَطَراً لأنه صار جزءاً من نزاعٍ داخلي! وقد يكونُ الكلامُ الأميركي والإسرائيلي ذَرّاًَ للرماد في العيون، لكنْ يبقى بالفعل أنّ البضاعةَ التي تعرضُها إيران على الولايات المتحدة في لبنان وغيره هي بضاعةٌ مغشوشةٌ، لا تفيدُ الولايات المتحدة في شيء، ولا تشكّل ورقةً للتفاوُض أو الابتزاز عند حلول ساعة الحقيقة. فالخسائرُ الحقيقيةُ ليست لاحقةً بالولايات المتحدة، ولا بإسرائيل، وإنما هي لاحقةٌ بلبنان وفلسطين والعراق والعرب. وقد بدأت عامةُ الناس تنسى الغزوات الأميركية، والتدميرات الإسرائيلية، وتتطلعُ من حولها في الخراب الجميل، فلا تجدُ غير الغربان الإيرانية تطوفُ من حول الجُثَث. وفي حين تسبّبت سياسات الاستنفار الإيرانية في تغريب الطوائف الشيعية العربية عن مجتمعاتها وبلدانها، ما يزالُ السُنّةُ هم الذين يقاتلون الولايات المتحدة في كل مكان: في العراق وفي أفغانستان وفي باكستان وفي السودان. وعندما شكا وزير الحرب الإسرائيلي من أن الولايات المتحدة لا تأبهُ بما فيه الكفايةُ لمخاوف إسرائيل من النووي الإيراني، أجابه المتحدث باسم وزارة الحرب الأميركية أنّ إسرائيل لم تعمل شيئاً من أجل تهدئة الثَوَران الفلسطيني والعربي بالسير قُدُماً في عملية السلام، أمّا إيران - كما يقول الأميركيون - فليس في الأُفُق غير العقوبات الدولية ضدَّها وليس الحرب. وعلى تلك «التحية» أجاب الرئيس الإيراني بتحيةٍ أحسنَ منها عندما قال: إنّ إيران ستمشي قُدُماً باتجاه الولايات المتحدة، إنْ غيّرتْ سياساتِها تُجاهَها! لقد تعاون الطرفان من قبل ضدّ الإرهاب (السُنّي)، ولا شيءَ يمنعُ من متابعة التعاوُن إلاّ الإصرار الإيراني على إنتاج أسلحة الدمار الشامل! لكنْ: لماذا يُريدُ الحزبُ وبهذا الإصرار النصَّ على «حق المقاومة» في التحرير، أي البقاء على سلاحها، ما دام ذلك لن يقدّم ولن يؤخّر، إذ لن يستطيع أحدٌ إرغامَ الحزب على نزع سلاحه، أو إرغامه على تحديد وجهة استخدامه؟ لقد سيطر الحزبُ على القرار الأمني والعسكري للبنان، وهو يُريدُ تغطيةً سياسيةً لهذا الاستيلاء ومن جانب السُنّة بالذات ممثَّلين برئيس الحكومة، والنائب سعد الحريري. فالنقاشُ والانقسامُ الآن يأتي بعد احتلال بيروت السُنّية، ولأننا نعرفُ أنّ السلاحَ لن يُستخدم بعد اليوم لمهاجمة إسرائيل؛ فإنّ الإقرارَ به، يعني إقراراً بوظائفه الجديدة وهي وظائفُ داخلية بحتة. وفي نظر الحزب وأنصاره - وبينهم بعض السُنّة - فإنّ «نهج المقاومة» قد انتصر عسكرياً وينبغي أن يتجلَّى ذلك سياسياً. وإثباتاً للوظيفة الجديدة قال ممثلو الجنرال عون في اللجنة الوزارية: ينبغي أن يحتفظ الحزبُ بسلاحه لمنع توطين الفلسطينيين بلبنان!

إلى أين نحن ذاهبون إذن؟ سلاحٌ مُقاومٌ مرةً لاحتلال بيروت. وسلاحٌ مُقاوِمٌ مرةً أُخرى لكنْ للدخول في المحور الإيراني في مواجهة الولايات المتحدة. وسلاحٌ مقاومةٍ مرةً ثالثةً لمنع الفلسطينيين من التوطُّن بلبنان! إنها بلطجةُ الأقليات التي شهدها العالَم العربيُّ طوال العقود الماضية، الأقليات المستولية على الأنظمة، والأقليات المستولية على التنظيمات الثورية التحريرية، التي ترفعُ شعار فلسطين، لكنها تنتهي بالاستيلاء على مُدُننا في بغداد وغزة وبيروت!