الجدل القانوني ـ السياسي في ما وراء مذكرة اعتقال البشير

TT

لا مندوحة من الإقرار أن مذكرة الاعتقال الصادرة ضد الرئيس السوداني عمر البشير من المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بقدر ما لقيت ترحيبا واسعا في بعض الأوساط المهتمة بحقوق الإنسان أثارت امتعاضا واسعا في بعض هذه الأوساط ذاتها التي اعتبرتها مظهرا لتوظيف قضية مقدسة عادلة في الاعتبارات السياسية الصادرة عن مصالح آنية وليس خلفيات قانونية وأخلاقية مجردة وموضوعية.

تساءل البعض عن سبب التحرك ضد الرئيس السوداني، المتهم بالضلوع في انتهاكات حقوق الإنسان في منطقة دارفور، في الوقت الذي تقع حماية رؤساء دول لا يخفى دورهم في ارتكاب فظائع التصفية العرقية والإبادة الجماعية، كما هو شأن رئيس إفريقي آخر كالكونغولي دنيس ساسو نغيسو، صديق فرنسا المحمي من شركة توتال النفطية، وشأن رئيس وزراء إسرائيل السابق أريل شارون، المسؤول عن جرائم صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982.

 في هذا السياق يجد العرب أنفسهم أمام إشكال حاد: ليس لديهم إلا القانون الدولي والشرعية للدفاع عن حقوقهم المسلوبة في مواجهة الاحتلال والقمع والاعتداء، فهم المستفيدون الأوائل من ديناميكية تعزيز وتوسيع القانون الجنائي الدولي المتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، لكنهم في الآن نفسه ينظرون الى هذه الديناميكية كغطاء زائف للتدخل في شؤونهم الداخلية ومعاقبة أنظمة الحكم  المتمردة على القوى الدولية المتحكمة في النظام العالمي.

برز هذا الإشكال بقوة خلال حرب تحرير الكويت عام 1991، وأطلق عليه مفهوم «ازدواجية المعايير» الذي تحول الى احد المصطلحات المحورية في نقد استراتيجية التدخل الإنساني التي تبلورت بعد الحرب الباردة للتعامل مع الأزمات التي تفضي الى فظائع الإبادة الجماعية وجرائم الحرب او الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.

وكما هو معروف، فلحق (أو واجب) التدخل الإنساني صيغتان:

رخوة تنحصر في حماية الأقليات المهددة بالتصفية والإبادة، وتتمثل قانونيا في مبدأ الاختصاص الشمولي في قضايا حقوق الإنسان الذي يعني صلوحية كل المحاكم الأجنبية لمقاضاة المتهمين بجرائم حقوق الإنسان.

وصلبة تصل الى حد استبدال مرجعية القانون الدولي بنمط من النكوص لمفهوم الحرب العادلة ذي الخلفية اللاهوتية المسيحية القديمة.

ومن الواضح أن الصيغة الأولى لم تطرح سوى إشكالات محدودة في حالات التدخل في الحروب الأهلية المفضية للتصفيات العرقية هو الحال خلال التدخل الدولي عام 1998 في كوسوفو لحماية الألبان المسلمين، وإن كان مبدأ الاختصاص الشمولي الذي دمجته الكثير من البلدان في نظامها القضائي، يطرح إشكالات عملية تبين المصاعب السياسية لتطبيق معيار شرعي يتجاوز منطلق السيادة الوطنية الذي ترتكز عليه العلاقات الدولية في العصور الحديثة.

وقد طرح الموضوع بحدة على القضاء البلجيكي الذي اخذ بهذا المبدأ، بخصوص الشكاوى المقدمة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شارون ووزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رمسفيلد، التي حفظت، على عكس الشكاوى ضد متهمين أفارقة من بينهم نائب الرئيس الكونغولي بمبا. وهكذا يبدو من الجلي ان الانتقادات الموجهة للقانون الجنائي الدولي الجديد تتمحور حول علاقته الملتبسة بالرهانات والمصالح السياسية، التي تؤثر على صدقيته الشرعية والقيمية.

ويرجع هذا المأزق الى الاتجاه الراهن الى تضخيم دور القانون وتحميله مهام كانت تعود في السابق الى الأخلاق والسياسة. ولقد بدا هذا الاتجاه مع  بداية عصور التنوير والحداثة، وأفضى الى نتيجتين بارزتين هما:

ـ  بناء شرعية الدولة على القانون بدل الدين والكاريزما الفردية، بما يترجم بنموذج العقد الاجتماعي من حيث هو تجسيد الإرادة المشتركة في شكل قواعد قانونية شاملة ومجردة.

ـ  استبدال موازين القوة في العلاقات الدولية  بشرعية المواثيق والاتفاقات الضامنة للسلم والأمن وعدم الاعتداء من منظور العدالة الإجرائية (في مقابل العدالة المعيارية المستندة للمنظور الأخلاقي).

ولقد تنبه الفيلسوف الألماني المعاصر كارل شميت الى النتائج التي تفضي اليها هذه المقاربة القانونية في صياغة القيم الأخلاقية والموازين السياسية، محذرا من أنها تؤدي الى إفساد السياسة بتمويه علاقات القوة التي تقوم عليها بإعطائها مضمونا أخلاقيا وهميا، والى إفساد الأخلاق بتقويض مرجعيتها المعيارية العميقة واستبدالها بإجرائية توزيعية محدودة.

ان هذا الإشكال هو الذي يبرز حاليا في موضوع محاكمة الرئيس السوداني التي تلتبس فيها الاعتبارات الأخلاقية بالمصالح والموازين التي هي الحقيقة الوحيدة في العلاقات الدولية.