سلام اقتصادي أم تمويل أوروبي لدوام الاحتلال؟

TT

كان غوردون براون رئيس الوزراء البريطاني، هو الضيف الرابع الذي وقف خطيبا في الكنيست الاسرائيلي، في الذكرى الستين لتأسيس الدولة. سبقه إلى ذلك الرئيس الأميركي، والرئيس الفرنسي، والمستشارة الأمانية، وتباروا جميعا في تقديم الدعم السياسي والأمني للكيان الصهيوني.

وبغض النظر عن الأسباب الكامنة وراء الإحساس الأميركي والغربي، بضرورة الإعلان عن هذا الدعم لإسرائيل، والذي ينطلق من قلق إسرائيلي وصهيوني أولا على مستقبل هذا الكيان، المهدد بالأفول حسب قولهم، إلا أن زيارة المسؤول البريطاني والموقف الذي عبر عنه، يستحق وقفة خاصة، بسبب طبيعة الموقف بالذات، فزيارة براون ومواقفه أثناء الزيارة، يمكن تلخيصها بشعار واحد «السلام الاقتصادي».

قال براون شارحا موقفه: «عندما نتحدث عن دولة فلسطينية.. نعني بذلك أيضا دولة ذات مقومات اقتصادية، وسوف أستمر في تشجيع التركيز بشكل خاص على الاقتصاد، وقد أعددت حتى قبل أن أصبح رئيسا للوزراء، خريطة طريق اقتصادية لأجل السلام.. وهذه جهود يمكن البدء بها الآن، وبذلك يمكننا أن نحسن الجو العام أمام التطور السياسي».

وقد بادر براون فورا إلى وضع تصوره الاقتصادي هذا موضع التطبيق، فأعلن عن:

1ـ تقديم 30 مليون دولار إضافية كدعم مباشر لموازنة السلطة الفلسطينية (لدفع الرواتب).

2ـ تقديم 30 مليون دولار إضافية لدعم خطة التنمية الاقتصادية الفلسطينية (المعطلة بسبب الحواجز ومنع التنقل).

3ـ أعلن رغبة بريطانيا في إنشاء مؤسسة مالية تقدم قروضا للفلسطينيين من أجل شراء منازلهم، وقال إن إنشاء هذه المؤسسة سيسمح بإيجاد حوالي 50 ألف وظيفة مع بناء حوالي 30 ألف منزل.

4 ـ أعلن عن رغبته في استضافة مؤتمر للاستثمار في لندن، على غرار مؤتمر بيت لحم الذي عقد بمبادرة فلسطينية قبل أشهر، وكمتابعة لمؤتمر لندن الخاص بالدول المانحة.

التقى براون في القدس، وخارج إطار لقاءاته الرسمية، مع الأكاديمي الفلسطيني ورئيس جامعة القدس، الدكتور سري نسيبة، وهو لقاء يحمل دلالة خاصة، لكون سري نسيبة من دعاة التفاوض والاعتدال، وله مواقف علنية في هذا الاتجاه أثارت ضده انتقادات فلسطينية كثيرة. ومن المنطقي جدا أن يكون براون قد شرح لنسيبة في هذا اللقاء نظريته الاقتصادية من أجل السلام، متوقعا الثناء عليها ومباركتها كما فعل قادة السلطة الفلسطينية. ولكن رد فعل الدكتور نسيبة كان مفاجئا ومميزا، وطرح بدوره مسألة سياسية فلسطينية ذات أهمية خاصة، عنوانها الأساسي رفض الخطة الاقتصادية، ورفض كل منهج الدول المانحة في دعم السلطة الفلسطينية. وقد حرص نسيبة أن لا يبقى هذا الرأي ثنائيا بينه وبين براون، بل تعمد أن يعقد مؤتمرا صحافيا في القدس، أعلن فيه رأيه بصراحة.

قال الدكتور نسيبة: إنه يدعو الأوروبيين والأميركيين إلى التوقف عن دفع مساعداتهم للسلطة الفلسطينية. وقال: إن الأموال الأوروبية والأميركية تدعم الاحتلال الإسرائيلي، وتحافظ على تبعية الفلسطينيين لإسرائيل، وتشجع الفساد في صلب السلطة الفلسطينية. وصف نسيبة المساعدات بأنها آلية خطرة ومن شأنها دفع الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الجمود. وقال: إن إسرائيل لا يمكنها مواصلة احتلالنا بدعم مالي من الأميركيين والأوروبيين. وختم حديثه قائلا: إن هذه المساعدات يجب أن تواكبها مفاوضات جدية ونهاية للاحتلال الإسرائيلي.. وما لم يقله نسيبة هنا، إنه ما دامت المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية غير جدية، وما دام الاحتلال الإسرائيلي قائما من دون نهاية، فإن المساعدات تصبح ألية لتكريس الاحتلال واستمراره.

وهذا الرأي الذي أعلنه الدكتور سري نسيبه مهم بحد ذاته، وهو مهم أكثر لأنه يصدر عنه بالذات، فهو رجل سلام، وهو رجل تفاوض، حتى أن براون أصر على لقائه بينما رفض مثلا زيارة قطاع غزة، ولو من أجل الاطلاع على أوضاعه الاقتصادية الصعبة وغير العادية وغير الإنسانية.

هذا الرأي الذي عبر عنه نسيبه ليس جديدا فلسطينيا، فمنذ أشهر طويلة، تضج الساحة الفلسطينية (والإسرائيلية أيضا) بكتابات ونقاشات تركز على فشل عملية التفاوض، وتصل إلى حد القول بفشل مشروع الدولتين. وهناك من يشرح بالوقائع والأسانيد أن طريقة التفاوض الإسرائيلية تثبت أن إسرائيل لا تريد من حيث المبدأ قيام دولة فلسطينية. وتطرح هذه المناقشات احتمالات وخيارات أبرزها: إعلان حل السلطة. العودة إلى المقاومة المسلحة الشاملة. الاستعداد للتعامل مع واقع دولة ثنائية القومية. أو مع واقع دولة لشعبين. ويتضمن طرح هذا الاحتمال إقرارا بفشل المشروع الوطني الفلسطيني، والحاجة إلى حوار فلسطيني معمق حول المشروع الفلسطيني البديل. وتسيطر هذه المناقشات حتى على عملية الإعداد لمؤتمر حركة فتح، وتتسع الخلافات حولها إلى حد القول باستحالة عقد مثل هذا المؤتمر، أو إلى حد القول بأن بعض القادة الكبار في السلطة لا يريدون عقد هذا المؤتمر، لأنهم لا يريدون أصلا إحياء الدور النضالي لحركة فتح.

في هذا السياق، يمكن القول بأن هذه المناقشات المكثفة، تأتي كعملية نقد للمفاوضات والمفاوضين، وكأنها تعبر عن رأي المعترضين والمنتقدين (مع أن ذلك ليس صحيحا)، ولكن هذه التوصيفات لا تنطبق على الدكتور سري نسيبة ولا على موقفه الحديد هذا، إنه ينتقد إن صح التعبير، من داخل المؤسسة، ومن داخل منطق التفاوض، ومن داخل موقف الاعتدال، بل والاعتدال الشديد أحيانا. ومن هنا أهمية موقفه.

إن جذر هذه المواضيع كلها يعود إلى اتفاق اوسلو. لقد كان اتفاق اوسلو حسب الفهم الفلسطيني له، مرحلة انتقالية، يتم أثناءها إنشاء حكم ذاتي، ثم يتطور إلى دولة، استنادا إلى اتفاق سياسي (حل دائم) يتم إنجازه. وجرى الترحيب في سياق هذه العملية بمبادرات الدول المانحة لتمويل سلطة الحكم الذاتي، باعتبار أن هذا التمويل سيساعد في بناء الأجهزة اللازمة للدولة المنشودة. ولكن الذي حصل على أرض الواقع كان جزئيا ومبتسرا، قام الحكم الذاتي (جزئيا)، وفشلت مفاوضات إنشاء الدولة الفلسطينية (سابقا أيام عرفات ولاحقا أيام محمود عباس)، ولم يبق من هذا المشروع سوى مساعدات الدول المانحة. وحين تقلص المشروع إلى هذا الحد أصبحت صورة الوضع غريبة وعجيبة، بل وفريدة من نوعها في التاريخ، فالاستقلال الفلسطيني لم يتحقق، والاحتلال الإسرائيلي قائم ومتصل، ودولة الاحتلال معفية من مسؤوليات يتحملها الاحتلال حسب القانون الدولي، وهناك دول مانحة تتولى تمويل الاحتلال بالنيابة. ونشأ عن ذلك وضع مريح لإسرائيل، ونشأت في قلب ذلك نظرية السلام الاقتصادي التي طرحها غوردون براون. وكأن هذه النظرية تقول ما دامت المفاوضات السياسية لم تنجح فلنركز على الاقتصاد، وحين تنشأ بعد سنوات، تقصر أو تطول، مصالح اقتصادية مشتركة، يمكن البناء عليها لبلورة حل سياسي. لقد كانت التسوية السياسية المدخل لبناء دولة فلسطينية، أما الآن فهناك من يطرح الاقتصاد بديلا للتسوية السياسية.

لقد تم إقناع الأوروبيين، من قبل أميركا وإسرائيل، بأن إبعادهم عن لعب دور سياسي في التسوية ليس أمرا سيئا، وحين فشل الحل السياسي أصبح الأوروبيون ممولين لدوام الاحتلال. وهو بالتأكيد دور لم يختاروه، ولكن المؤسف أنهم أصبحوا الآن منظرين له. وهو دور يجب أن ينتهي.

الدكتور نسيبة فعل حسنا حين رفع صوته مطالبا بذلك. وحين يصل صوت من نوع صوت سري نسيبة إلى هذا الموقع، فإن على الكثيرين أن يفكروا، وأن يعيدوا النظر في تقييمهم لما فعلوه، ولما قد يفعلونه.