القوى السياسية العراقية: ثبات أم حراك في التحالفات؟

TT

طالما كانت هناك مقاربات بين الوضع العراقي واللبناني، والآن يريد ان يزيدنا الحراك السياسي الاخير في العراق بمقاربة جديدة وهي ما اراد ان يسميه البعض تشكل قوى 22 تموز، اشارة الى القوى التي صوتت على قانون الانتخابات في ذلك اليوم، هذا القانون الذي رفض من قبل الرئيس الطالباني ونائبه عبد المهدي، فهي تتشابه مع قوى 14 آذار و 8 آذار اللبنانية من حيث التأرخة وبخلافه يظل التشابه شكليا، اذ ان هذه القوى تشكو من التشرذم والتشظي وتتنازعها صراع الزعامات. فهي لا يجمعها جامع الا العداء للحكومة والشكوى من استئثار الكبار وتهميشهم لهم، تفتقر الى وحدة السياسات ناهيك من النجاح في بلورة مشتركات فهي غير قادرة ان توجد لا معارضة بناءة ولا حتى مسقطة للحكومة، فهم متفقون على مناوءة خصومهم ومختلفون على كل ما بعده، استدلوا بأن البرنامج الوطني والتيارات العابرة للطوائف هي المنقذة للعراق ولكنهم بقوا مشدودين لمكوناتهم الفرعية، مع ذلك اعتبر هذا البعض ان هذا التصويت مثل علامة فارقة في الوضع السياسي العراقي.

فهل تأتي فرادته بانه ايذان بتوجه نحو اصطفافات سياسية ليست على اساس طائفي او اثني، بل اصطفافات مواقف وقضايا، ام انه سيكون كبيضة الديك لا تتكرر، حيث سرعان ما تعود بعدها القوى السياسية الكبرى في البرلمان الى احكام قواعد اللعبة ومنع الخروج على قوانينها وخنق واجهاض ميول التمرد عليها. لا شك ان نتيجة التصويت لـ 127 نائبا ضد رؤية الكرد لانتخابات كركوك استلزمتها طبيعة المشكل وليس نتاج جهد معارضة بازغة، اذ ان حساسية مسألة كركوك المختزنة لـ 12% من احتياطي نفط العراق بالغة، فهي برميل نفط العراق وهي برميل باروده، وهي مفتاح استقراره او بوابته لحرب اهلية واقتتال، ومستقبلها واين تتجه سيحدد بقاء العراق دولة موحدة او تكون هي المدشنة لانفراط عقده وتشظي بقية اجزائه، فنسيجها المجتمعي الذي يمثل عراقاً مصغراً باحتوائه لكل المكونات الدينية والاثنية والطائفية العراقية يجعل من العسير فرض حل تعسفي لمصلحة طرف فيها، انها عينة مصغرة ولكنها واضحة لصراع الهويات، شارعها ليس بحاجة الا لشرارة ليلتهب، فالعنف سيكون زادها اليومي لو فرضت عليها حلول قسرية او تسويات مختلة، هي مدولنة بامتياز من الحضور اللافت للامريكان والامم المتحدة كوسيط ودافع للاطراف للتوافق، كما ان مهاجمة مقر حزب في كركوك وقرار الكرد في مجلس محافظتها بالدعوة لالحاقها بكردستان استدعت اتصالات عاجلة بين الرئاسة العراقية والرئيس التركي غول والرئيس اردوغان للتطمين، فهي محل انصباب اهتمام اللاعبين الدوليين والاقليميين، حيث من الممكن ان تدخل ليس العراق لوحده وانما المنطقة في دوامة التهديد وعدم الاستقرار.

لذلك فانه لا يمكن ان توصف المعارضة التي مررت هذا القانون بانها قادرة على ان تستمر وتشكل حراكا سياسيا مستقبليا فاعلا، او ان تنشئ تحالفاً متيناً، فالقوى السياسية التي صوتت فعلت ذلك مدفوعة بمصالحها الجوهرية التي مست في هذه المدينة او هي تتشارك في الانشغالات السابقة، في حين ان قوى اخرى جاء تصويتها احتجاجياً ضد ما اعتبرته استئثاراً بالقرار السياسي او تململاً مما تراه تماديا في المطالب.

الكرد من جهتهم اعتبروا ان هذا التصويت ايضاً علامة فارقة، وانهم سيعيدون الحسابات والنظر في التحالفات، وان خارطة القوى السياسية في العراق ستتغير. لا شك ان الكرد كانوا، ولازالوا نسبياً، يمسكون بالموازنة بين التحالفات وهم بيضة القبان فيها، ومطالبهم تمرر بيسر، وسياسات بغداد واجبة الانسجام معهم، فهم صانعو الملوك وايضاً هم المطيحون بمستقبل مناوئيهم، ولكن هل يمتلكون فعلاً هامش المناورة، او ترف البدائل في اختيار الحليف، او القدرة على المراجعة الجذرية؟ ابتداءً اقرر قبل ان احلل ان هامش الكرد هو في الاختيار والمناورة يظل بين الحلفاء الشيعة وليس خارجهم، واسبابي هي انهم لا يستطيعون التخلي او فك الارتباط مع حلفائهم الشيعة، فالاثنان جمعهما تأريخ من المظلومية والاضطهاد وجمعهما العمل المعارض لاسقاط النظام السابق وقبله عاشا مرارة التهميش منذ نشوء العراق الحديث، وكلاهما استفاد من التغيير وعمل على اسناد وتدعيم العملية السياسية، والاثنان تخدمهما الديمقراطية والاستماتة في الحفاظ على مؤسساتها كونها ضمانتهما، فهما مهجوسان بشبح انقلاب عسكري يرتد على مكاسبهما وحقوقهما، ويخافان من مركز، ما ان يقوى حتى يتغول عليهما، فلكبحه لا بد من توزيعهما لسلطاته، أما المحيط فلا هما يألفانه ولا هو يألفهما، حيث يعتبر صعودهما لناصية الحكم خرقاً لنواميس المنطقة واعرافها واستثناءً في تأريخها. من هنا فإن اي تهديد لتغيير التحالف هو غير وارد من كلا طرفيه، اذ أن اي حليف اخر للكرد يذهبون اليه فإن جامعهم معه هو قلب كل ما سبق من مشتركات وجعلها متناقضات بل وحتى متنافرات.

اذن قواعد اللعبة سيعمل السياسيون الكبار الى اعادة خيوطها لأيديهم واحكامها وضبط التحالفات، ولكن ايضاً فان اللاعبين السياسيين الصغار يكبرون بقضايا الوطن، وان اخراج الامور من دائرة الظل والصفقات يجعل الجميع اقرب الى التساوي وان تفاوتت اوزانهم، حيث تستعين القوى الضعيفة بالرأي العام الذي اهميته في الديمقراطيات انه يظل هو الحكم والقادر على اعادة تركيب الاحجام، وعليه لا يجب ان يتم الركون دائماً الى سرمدية تحالفات، فالحراك السياسي الاخير، وان عجز عن ايجاد كتلة رصينة مهددة، فانه سعى لكسر الطوق والهيمنة، والاهم انه اوجد اصطفافات مواقف.