ملامح من حياة فنان بوهيمي

TT

في عقد الستينات من القرن الماضي حل الملحن اليمني المعروف طاهر حسين ساكنا جديدا على حي الشاطئ الجنوبي «السبخة» بمدينة جدة، وكان يشاركه السكن في تلك الغرفة فنانان آخران من وطنه هما: «الحاج» عازف الإيقاع الشهير، وخطاط مبدع اسمه عبود.. وكان نصيب هؤلاء الثلاثة من البوهيمية يفوق نصيب كل أهل الفن قاطبة.. عاشوا على باب الله، يعملون يوما ويتعطلون أياما، وأكثر أيامهم نشاطا حينما كلفهم العم صالح بنان بنقش آيات من كتاب الله في محراب وزوايا مسجد بناه في الحي، مقابل إيجار الغرفة التي يسكنونها، فكنت تجد الخطاط عبود معلقا في أعلى السلم، وطاهر حسين والحاج يقفان على الأرض، وقد حمل كل منهما لونين من ألوان الطلاء، كي يغمس عبود فرشاته في اللون الذي يريده، وبعد ساعات من العمل الشاق يهبط عبود درجات السلم، ويبدأ بتأمل كتاباته مليا قبل أن يصعد ليمحو كل ما خطه، ويبدأ من جديد.. وقد استمر الحال أكثر من شهر، يمحو عبود في النهار ما خطه في الليل، حتى اضطر صاحب المسجد إلى استبدالهم بآخرين أنهوا في يومين ما عجز الثلاثي عن تنفيذه في شهر..

كانت المياه الجوفية تغرق أرضية الغرفة، فلم يحاولوا إخراجها، بل صنعوا جسرا خشبيا يوصل إلى الأسرة التي ينامون عليها، فتراهم يعبرون الجسر بمهارة ورشاقة، من دون أن يسقطوا في الماء، ورغم الحالة التي كانت عليها تلك الغرفة الكئيبة فإنها كانت تتسع ليلا لتضم إلى جانب ساكنيها عددا من الضيوف، منهم كاتب هذه السطور، فيتربع طاهر حسين على طرف فراشه، مداعبا أوتار عوده، يصاحبه الحاج على الإيقاع، ليتعالى الصوت بالغناء: «عاشق وطفران وعامل مثل تبع اليماني!!»

وانتهت حياة الثلاثي في تلك الغرفة بهجرة الخطاط «عبود»، وانضمام «الحاج» إلى أحد الفريقين المتحاربين في اليمن إبان الحرب الأهلية، وبقي طاهر حسين وحيدا يجرب أن يفتح أبواب الفن المغلقة في وجهه، واستطاع بموهبته الشاملة شاعرا وملحنا ومطربا أن يثبت ذاته في الساحة الفنية، فغنى من ألحانه طلال مداح، وعبد المجيد عبد الله، وعلي عبد الكريم، وعبد الله رشاد وآخرون..

لكن بوهيمية الفنان التي لازمته إبان تلك الغرفة الشهيرة ظلت ترافقه بقية حياته، فلقد زارني ذات يوم في مكتبي، وحينما خرج وجد إطار سيارته مفرغا من الهواء فتركها على أن يعود إليها في المساء، وظلت العربة في مكانها أكثر من شهر، حتى كلفت من يقوم بإصلاح إطارها وغسلها لندعوه بعد ذلك لاستلامها.. إن التقيت بطاهر حسين فأنت لست في حاجة لمن يرشدك بأنه فنان، فكل ما فيه يوحي بذلك، فهو فنان حقيقي في مظهره وجوهره وعطائه، ويندر أن تلتقي به صدفة في شارع العمر من دون أن يهديك شيئا من روحه قبل أن يختفي من أمامك كشعاع ضوء!

[email protected]