«حدود» الحرب والسلم بين العرب

TT

* في «صحوة» قومية نادرة، رغب الموسيقار محمد عبد الوهاب في تلحين وغناء قصيدة لصديقه الزعيم الشعبي السوري فخري البارودي التي يقول فيها:

* «بلاد العُرْبِ أوطاني من الشام لبغدانِ ومن نجد إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوانِ».

* كانت القصيدة قد لقيت في الثلاثينات والأربعينات شهرة واسعة. كانت بسيطة وساذجة إلى حد السخافة. لكن الآمال كانت آنذاك على قدر طُهر المنى والمشاعر التي لم تكن قد تلوثت، بعد، بـ«استقلالات» السيادة الزائفة.

في رهافته الفنية الدقيقة، طلب عبد الوهاب الاستغناء عن «تطوان» واختيار غيرها. غضب البارودي غضبة مُضَرِيّة. وبخ صديقه الموسيقار. فهو لا يتنازل قط عن حدود الوطن العربي. أصر عبد الوهاب. وافترق الصديقان على زعل وخلاف حول الحدود.

في الأسبوع الماضي، قتل جندي لبناني وجرح آخرون في اشتباك على بعد أمتار من الحدود بين سورية ولبنان. الاشتباك جرى مع مسلحين «مجهولين» كانوا في سيارة رفضت التوقف عند حاجز للجيش اللبناني في جرود الهِرْمِلْ.

الحادث له دلالة سياسية خطيرة. جرود الهرمل منطقة شيعية نائية يسيطر عليها «حزب الله». المنطقة كانت دائما متمردة على سلطة الدولة اللبنانية. وهي معبر تاريخي مستمر لحركة تهريب السلع. وقد عجزت سلطات البلدين دائما عن إغلاقه. الدلالة السياسية هنا في أن المنطقة باتت أيضا مريبة. فهي متهمة بتهريب السلاح الإيراني المتسلل عبر الروابي والطرق الترابية الالتفافية من سورية إلى «حزب الله».

لا شك أن سورية وإيران و«حزب الله» ضاقت بتعزيز وتوسيع الجيش اللبناني لمخافره وحواجزه الحدودية. فعل الجيش ذلك تجاوبا مع الضغوط والقرارات الدولية التي ألحّت على المراقبة لمنع وصول السلاح.

الاشتباك المسلح على الحدود قد يعطي الرئيس اللبناني ميشال سليمان انطباعا بأن سورية غير راغبة في «ضبط» الحدود. وهو يتأهب لزيارة ندِّه السوري الرئيس بشار، لا سيما بعد زيارة الأخير لطهران. بشار بدا في هذه الزيارة، وكأنه «وسيط» الغرب لإقناع حلفائه الإيرانيين بوضع عقولهم في رؤوسهم، وإلا... فهو مضطر لمسايرة أميركا وفرنسا وربما إسرائيل، والابتعاد قليلا عن إيران، تجنبا للاشتباك مع الغرب إذا قصف مصانع إيران النووية وآبارها النفطية.

الحدود في مقدمة القضايا الكثيرة التي تنوء بها جعبة سليمان الحكيم. في استعجاله زيارة دمشق (بشار يبدي فتورا) سوف يعرف الرئيس اللبناني ما إذا كان بشار قد توصل أو لم يتوصل إلى اتفاق مع إيران «لضبط» الحدود. إذا منعت سورية تسلل السلاح، فقد وفرت الفرصة للبنان لمطالبة أميركا والغرب بمنع إسرائيل من الانتهاك اليومي «لحدود» لبنان الجوية، بحجة مراقبة حركة السلاح المتسلل. بل ربما تم حل مشكلة مزارع شبعا المحتلة بانسحاب إسرائيل منها تحت ضغط فرنسا وأميركا والأمم المتحدة. هذا الاحتلال الذي يتذرع به «حزب الله» كحجة لإبقاء سلاحه في حزامه.

الواقع أن الحدود همٌّ سوري كبير. السوريون يشعرون بأن بلاد الشام تعرضت للقضم من كل الأطراف. سلحت تركيا لواء اسكندرون. طالبت بحلب. رفضت رسم حدودها على رؤوس جبال طوروس. سلحت فرنسا مناطق الشيعة وضمتها إلى لبنان. هي اليوم تشكل شرق لبنان وجنوبه.

كنت كلما التقيت في باريس الزعيم اللبناني الراحل ريمون إده يذكرني، على سبيل المزاح والمضايقة، بأن الزعيم الفرنسي كليمنصو أدخل بخطه الأحمر دمشق في خريطة «لبنان الكبير». لكن البطريرك يوسف الحويّك واميل إده (والد ريمون) توسلا إليه بإبقاء دمشق خارج خريطة لبنان، لأنها تعج بالمسلمين السنة.

لا شك أن البطريرك الحويّك وإده الأب والابن يتقلبون في مراقدهم ندما على ضم الشيعة. غير أن الشيعة ليسوا بنادمين. التمرد على دولة الموارنة والسنة أسهل بكثير من التمرد على دولة حافظ وبشار، لو أبقاهم قلم كليمنصو في سورية. الدولة في سورية قوية. دجّنت السوريين بالقانون وغير القانون. اللبنانيون معتزون بحريتهم وبندقيتهم. الدولة عندهم ضعيفة. يستطيعون أن يحتلوا ساحتها وشوارعها. الحكومة تختبئ منهم. قوى الأمن لا تعترضهم.

كعربي، لم أكن أشعر بضغينة إزاء الراحل الظريف ريمون إده. كسوري، لا أطالب باستعادة الشيعة. فهم يعيشون أيضا في بلد عربي. كان الأسد يخفف من وطأة وصايته على اللبنانيين وحلفه مع الشيعة بالقول للموارنة، ربما على سبيل المزاح والمضايقة، إن هناك «شعبا واحدا يعيش في دولتين مستقلتين».

في فلتة لسان (مقصودة)، قال مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري المزمن (سابقا) إن الأردن اقتطع من سورية ورُسم بحدود استعمارية. إذا كان ذلك صحيحا، فسورية أيضا مرسومة بخطوط استعمارية مع العراق والأردن وتركيا ولبنان وفلسطين. أحيل طلاس على التقاعد لعدم قدرته على مواصلة «الجهاد» بعد تقدمه في السن، وليس بسبب الأردن.

لكن صلاح جديد خسر نظامه عندما شن حربا عبثية على الأردن (1970). الطريف هنا أن عرفات، في «هرتقاته» على الأسد الأب، دفع بالمسكين الراحل فيصل الحسيني إلى مطالبة سورية بمنطقة «الحمَّة»، لأنها تظهر في الخرائط الاستعمارية البريطانية داخل فلسطين. حروب الحدود بين العرب أنست عرفات والحسيني مطالبة إسرائيل بالانسحاب من الجولان، حيث «الحمَّة» بمياهها البركانية الساخنة.

الحدود الاستعمارية مزقت عرب البادية السورية. ثراء الخليج اجتذب شباب قبائل شمر المنتشرة عبر حدود سورية والعراق. باتوا جنودا وضباطا في القوات السعودية والكويتية. عرب عَنَزَة والرْوَلا ينتشرون عبر سورية والأردن. ما زلت أذكر الشيخ هايل السرور النائب في مجلس النواب السوري.

ابنه المهندس سعد السرور نائب في البرلمان الأردني وأصبح يوما رئيسا له. إهمال سورية لعشائرها دفعهم إلى الهجرة. تركوا الأرض العربية سائبة أمام زحف الأكراد عبر حدود العراق وتركيا.

كنت آمل في أن يعود عبد العزيز بوتفليقة من صحراء النفي الطويل، ليحل النزاع الخطير بين الجزائر والمغرب. لكن يبدو أن الصراع المزمن بات ثقافة سياسية في البلدين.

اختلفت الجزائر عند الاستقلال، مع المغرب حول مناطق حدودية. ابتكرت الجزائر «دولة الصحراء» لاستنزاف الجزائر الغنية والمغرب الفقير. لعل العودة إلى جذور الخلاف بحل الإشكالية الحدودية وإرضاء الجزائر، كافيان لتبديد وَهْمِ الدولة الصحراوية. أود أن أذكر بوتفليقة، وأنا أعرف غيرته العربية، أن الصحراء المغربية كانت تاريخيا جسر العبور للعروبة وللإسلام إلى قلب أفريقيا الغربية.

ليس الوقت ولا المجال هنا يسمحان بالتطرق، بالتفصيل، إلى «حدود» الحرب والسلم بين العرب. أقول إن الحدود إشكالية دولية فجرت حروبا ونزاعات أيضا، آخرها النزاع الحالي بين كامبوديا وتايلاند حول معبد بوذي على حدودهما. ثم يكفي أن أذكر أن الحرب العالمية الثانية بين قبائل أوروبا لم تشنها ألمانيا، إنما أعلنتها بريطانيا على ألمانيا بعدما مزق هتلر وستالين حدود بولندا.