دلالات أحداث غزة ومصائر القضية الفلسطينية

TT

من نافلة القول إن الصِدامات بغزة والناجمة عن مهاجمة مسلَحي حماس لأنصار فتح من جديد، وللمرة الخامسة أو السادسة، كارثية لجهة خسارة الأرواح والخراب، ولجهة زيادة اختلال العلاقة بين الفلسطينيين والمحيط العربي، وازدياد «التشابك» وليس الاشتباك مع إسرائيل! ولجهة مستقبل القضية الفلسطينية وأول خسائرها ضياع فكرة الدولة ومفهومها، وانصراف العرب والمجتمع الدولي عن السعْي من أجلها ما دام الفلسطينيون أنفُسُهُم غير متفقين على شيء غير التهدئة مع إسرائيل!

بدأت أحداثُ غزّة المسلَّحة قبل أكثر من عامٍ بعد توتُّرٍ طويلٍ بينهما بدأ بعد انتخابات العام 2006 والتي فازت فيها حماس. ووافق أبو مازن على تكليف إسماعيل هنية تشكيل الحكومة، وفشلت حماس في إقناع الفصائل الأُخرى بالمشاركة في الحكومة، كما أنّ الأجهزة الأمنية ما تعاونت مع هنية. وبعد طُول تجاذبٍ تشكلت حكومةٌ ائتلافيةٌ لم تُعَمِّر. إنما المهمُّ كان أنّ حماساً حوَّلت جزءًا من ميليشياها إلى قوى أمن «رسمية»، وأنّ أجهزةَ السلطة الفلسطينية اضطربت وتضاربت، وانقسمتْ إلى ثلاثة أقسام: قوى الأمن الوقائي، وقوات وزارة الداخلية، و«ميليشيا» فتح الخاصّة والتي قادها محمد دحلان لمكافحة محاولات حماس للسيطرة العسكرية والأمنية على غزّة. ولذا فعندما قامت حماس بالانقلاب قبل أكثر من عام، ادّعت أنها إنما فعلت ذلك لاستباق تآمُر محمد دحلان وميليشياه وقوات الأمن الوقائي عليها! إنما الطريف أنّ حوالي الـ 70% من الناخبين بغزة كانوا قد صوَّتوا لحماس، وبالتالي فإنّ غزة هي مدينتُها، ورئيس وزرائها المُقال فيها. وإذا كان دحلان والوقائيون يزعجونها، فبالوسع القبض عليهم أو طردهم دونما حاجةٍ لقتل الناس وترويع المدنيين، واستدراج المزيد من الحصار على القطاع وناسِه.

كان من الأسباب الظاهرة للنزاع بين فتح وحماس، الخلاف بشأن استمرار المقاومة ضد الاحتلال ومن قطاع غزّة بالذات، والذي انسحبت منه إسرائيل عام 2005. وكما هو معروف، فإنّ حماساً اشتركت مع فصائل صغرى حليفة في خَطْف جندي إسرائيلي، والاستمرار في إطلاق صواريخ «القسّام». وردَّت إسرائيل بتشديد الحصار على القطاع والغارات، وقتلت مئات الفلسطينيين، قبل حرب تموز وبعدها. وبعد انفجارٍ شعبيٍ نظمتْه حماس باتجاه مصر للإرغام على اختراق الحصار، استدارت ـ وبوساطةٍ مصرية ـ فأجرت تهدئةً مع إسرائيل، وانصرفت لضبط التنظيمات الفلسطينية الأخرى التي رفضت الدخول في المُهادنة. وإذا كانت المشكلة بالأمس مع دحلان، فهي اليوم مع أحمد حلّس، وغداً مع ضرّاب الطبل وهكذا، حتى لا يبقى بغزة حجرٌ على حجر!

بيد أنّ التوتُّر كان لا بد أن يستمرّ. أولا لأنّ حماساً أرادت الانفراد بالسيطرة، ومن الطبيعي أن لا تُوافقَ الأطرافُ الأُخرى حتى الحليفة، على تقييد حريتها. وثانياً لأنّ حماساً تملك آيديولوجيا استيلائية موروثة من الإخوان المسلمين، الذين يعتقدون أنهم الحقُّ كلُّه وخصومهم إمّا كفَرة أو جواسيس. وثالثاً لأنّ حماس لها (أو صار لها منذ العام 2005) شركاء إقليميون هم إيران (وحزب الله) وسورية. ولأنها غادرت «السياسة» منذ الانتخابات، فالارتباطات صارت أمنيةً وعسكريةً بحتة. ولذلك فقد يكونُ الانقلابُ الحماسيُّ نفسُه مطلوباً من إيران، وكذلك التحركات الأخيرة. إذا السيطرة على قطاع غزة «الجزء الثوري» من القضية الفلسطينية. وقد استخدموهُ مباشرةً قبل حرب تموز وبعدها. وهذه الهجمة الجديدةُ على فتح وأنصارها تأتي على مشارف التوتُّر الجديد بين إيران والمجتمع الدولي بشأن النووي. وكان نائب رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد قال في الأسبوع الماضي، إنهم إذا سهَّلوا الأمر لإيران، فستسهُلُ الأُمورُ في العراق ولبنان وغزة، وفي الملفّ النفطي!

في الحالة الفلسطينية انتهت التنظيمات المسلَّحة خارج فلسطين إلى أن تشكّل عبئا ثقيلا على بلدان الانطلاق مثل الأردن ولبنان. ويرجعُ ذلك إلى ردود فعل إسرائيل على هجماتها باتجاه الداخل الفلسطيني المحتلّ، وعجزها عن تحقيق هدفها بأيِّ قدْرٍ، والتعويض عن هذين الأمرين بإرعاب الداخل العربي الذي تنطلقُ منه ومحاولة الاستيلاء عليه بحجة «أمن المقاومة»؛ لكنْ في الواقع ارتهاناً له للمساومة على تحقيق شيء من هدفها الأصلي بالفعل أو بالوهم.

والمعروف أنه منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993 صارت الساحة الفلسطينية الداخلية في الضفة وغزة هي المسرح الرئيس إنْ لم يكن الوحيد للكفاح من أجل التحرير والاستقلال. وما كان الجميع مسرورين مما تحقّق بأوسلو؛ لكن الأطراف المشاركة في منظمة التحرير آثرت التوافُق والوحدة ضمن الحركة الوطنية الفلسطينية، التي استمرّ نضالُها منذ أجيال. وبقيت خارج فلسطين، وخارج منظمة التحرير شراذمُ ضئيلةٌ تابعة لهذا النظام العربي أو ذاك. بيد أنّ الفصيل المعتبر الذي ظلَّ خارج منظمة الحرير، وخارج أوسلو، كان حركة المقاومة الإسلامية (حماس). والتي شاركت في الانتفاضة الأولى متأخِّرةً، وحملت خطاباً عقائدياً لا يعترف بالآخرين وللآخرين بشيء. ويرى في نضال حماس وحدها جهاداً في سبيل الله. في النضال الفلسطيني، يبلُغُ من ضخامة الإحساس بالمسؤولية، أنه حتّى المتطرفون من القوميين واليساريين، لا يجرؤون على التفكير في التمرد على التوحد الداخلي، فضلا عن ممارسته. أمّا الإسلاميون، والذين يحملون تفويضاً إلهياً، فما ترددوا في نشر خطاب التكفير تحت حُجّة الصفاء الثوري، وراديكالية الأهداف: تحرير فلسطين كلّها، باعتبارها أرضَ وقفٍ إسلاميٍ على التأبيد! وقد استطاع ياسر عرفات بأصوله الإسلامية، وبالتعاوُن مع مؤسّس حماس الشيخ أحمد ياسين، أن يحافظ على شيء من التنسيق والتوحُّد الظاهري. لكنّ الواقع أنّ حماساً غادرت كلَّ أشكال الشورى والتلاقي منذ أواسط التسعينات. ومنذ ذلك الحين وجد فيها النظام السوري ضالّتَهُ لشفاء غليله من ياسر عرفات. وعلى أي حال؛ فإنّ حماساً ما اكتفت بالعقيدة الراديكالية والخطاب الراديكالي، بل سنّت أسلوباً جديداً خلال الانتفاضة الثانية وقبلها بالهجمات الانتحارية، والتي أفقدت الكفاح الفلسطيني التفوقّ الأخلاقيَّ والكثير من سِماته الإنسانية، في نظر الأعداء وبعض الأصدقاء. بيد أنّ الأهمّ أنّ انتحاريات حماس، وخطابها الانقسامي في الداخل، قَسّما للمرة الأولى المجتمع الفلسطيني، وتبادل كُلٌّ من القسمين مُحاصرة الآخر أو التواطؤ عليه، أمّا المسيحيون والمحايدون فما عاد لهم مكانٌ بين عَدَميّة حماس، وفساد فتح وأجهزتها.

للمرة الأولى منذ اكثر من ثمانين عاماً، هناك مجتمعان فلسطينيان، وهناك نهجان متصارعان في فهم القضية الفلسطينية، وطُرُق معالجتها. وللمرة الأولى، يجرؤ فصيلٌ فلسطينيٌّ رئيسيٌّ على رفع شعارات الحرب الأهلية وخوضها وباسم القضية، والصفاء النضالي. وللمرة الأولى تقوم أكثر التنظيمات راديكاليةً في الخطاب، بإنجاز تهدئةٍ مع العدوّ، من أجل التركيز على تصفية خصومه الداخليين. وكان تنظيم الجهاد الإسلامي، وتنظيمات أُخرى قد خطَّأوا حماساً في خَوض الانتخابات عام 2006، باعتبار أنها ترفض الأُسَسَ القانونية لتلك الانتخابات وهي اتفاقيات أُوسلو. وقال سائر المراقبين وقتها إنّ حماساً تريدُ السلطة ولا شيء غير، وهو شأن الإخوان المسلمين، منذ ظهروا في الثلاثينات من القرن الماضي في مصر والأردن وسورية. وكان أحدهم قد دبَّر مؤامرة للوصول إلى السلطة حتى باليمن عام 1949! وهذا الاعتبار، اعتبار السلطة والاستئثار بها ـ شأن الأحزاب اللينينية ـ هو الذي دفع حماساً باتجاه الانقسام، ولديها المسوِّغان الكبيران: الآيديولوجيا الطهورية والخلاصية، والتبعية لإيران ولسورية. يستطيع حزب الله، كما يستطيع كلُّ ضرَّاب طبلٍ أن يحمل شعار فلسطين، وأن يجد مَنْ يصفّق له. بيد أنّ الأخطَر والأفظَع هو ما تفعلُهُ حماسٌ، ومن أجل التسلُّط وخدمة أهدافٍ لا علاقة لها بفلسطين. وأياً يكن حظُّ المرء من الرؤية الشفافة أو الاستراتيجية؛ فالواقع أنه لا يمكن التنبؤ بعد الانقسام الحماسي، بمصائر القضية الفلسطينية. فلماذا تتجه إسرائيل نحو سلامٍ «مؤلمٍ» كما يقول أولمرت، إذا كان يمكن تحقيق تهدئةٍ وهدنة مع الحركات الثورية العظيمة، أمّا الآخرون فيرحمه الله:

لا يُلامُ الذئبُ في عدوانه

إن يكُ الراعي عدوَّ الغنمِ