هل يحتاج الفلسطينيون إلى عدو؟!

TT

هل دخلت القضية الفلسطينية في موت سريري، أم أن هناك أملا في إحيائها؟ وهل ما نراه اليوم هو مجرد كبوة سينهض بعدها الفلسطينيون ويلتم شملهم، أم أنها السقطة التي لا نهوض بعدها؟ ظني أن الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني اليوم مختلف عن أي اقتتال سابق، وأن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة هي الأخطر في تاريخها، تعقدها التجاذبات العربية التي ترى في قضية فلسطين أداة لدور وليس قضية يجب أن تحل. أسئلة اليوم كثيرة ومؤلمة ومنها: هل يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى عدو، وهم أعداء أنفسهم؟ أعداء فرحون بجهلهم وبلحظة الشهرة التي يتمتعون بها على تلفزيونات (البورنو) السياسي العربي. الناظر إلى الوضع الفلسطيني الراهن، يصل إلى نتيجة؛ مفادها أنه لم تعد إسرائيل تحتاج إلى أي مجهود لتصفية القضية الفلسطينية، فالفلسطينيون بقيادة حماس وفتح يؤدون تلك المهمة نيابة عن إسرائيل، وباقتدار منقطع النظير، فهم ينفذون مخطط الترانسفير، وينفذون مخطط «فلسطين هي الأردن»، وكذلك ينفذون مخطط تصفية منظمة التحرير، وسأوضح ذلك لاحقا في هذا المقال.

منذ أن بدأت الدراما الفلسطينية مع النكبة عام 1948، وقيام الثورة الفلسطينية عام 1965، وتجمع هذه الثورة ما بين عامي 1967 إلى 1971 في الأردن، ومن ثم توجهها إلى الساحة اللبنانية للفترة ما بين عامي 1971 إلى 1982، وبعد ذلك انتقال قيادتها ومعظم كوادرها إلى تونس وغيرها عام 1982، إلى قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، كان الهدف هو تحرير الأرض وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ورغم مأساوية فصول هذه الدراما التي عانى فيها الفلسطينيون، فقتل منهم الكثير وشرد منهم الكثير، واقتتل بعضهم مع بعض، واقتتل بعضهم مع إخوتهم في العروبة، إلا أن استمرار هذه القضية كان قائما دائما على وجود عدو واحد هو العدو الإسرائيلي.

أما اليوم، وابتداء من الخامس عشر من يونيو (حزيران) عام 2007، عندما قررت حركة حماس أن توقف أي مفاوضات مع حكومة الوحدة الوطنية، واستولت على غزة بقوة السلاح، وألقت بالفلسطينيين من جماعة فتح أحياء من فوق أسطح البنايات في بربرية غير معهودة، هنا دخل الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني مرحلة مفزعة لم يدخلها من قبل، رغم كل درب الآلام الذي مشت فيه هذه القضية من قبل. وبعد فترة من سيطرة حماس على غزة، شهد العالم خروج 750 ألف فلسطيني من غزة ورفح إلى الأراضي المصرية، وهو ما يمكن تسميته بـ «التصويت بالأرجل» ضد سياسة حكومة حماس مقابل تصويتهم لها بالأيدي في الانتخابات التشريعية الفلسطينية. فبعد أن كان الفلسطينيون يطالبون بحق العودة نجدهم اليوم يطالبون بحق الخروج من الأراضي الفلسطينية. كيف تحول الفلسطيني من المطالبة بحق العودة إلى المطالبة بحق الخروج؟ هذا هو ما عنيته تماماً في بداية المقال من أن حماس اليوم تنفذ ما كانت إسرائيل تحلم به وهو ترحيل الفلسطيني من خارج أرضه.

النقد الموضوعي للشأن الفلسطيني المبني على الأدلة والوقائع هو ما يحتاجه منا الفلسطينيون اليوم. لا أعتقد أنه يوجد عربي واحد لا يتعاطف كليا مع مأساة الفلسطينيين، لذا لا يجب التشكيك في نوايا أحد عندما يحاول مناقشة الوضع الفلسطيني بشيء من الجدية الصارمة. لقد دلل الكتاب والمفكرون والمثقفون العرب (مشاعريا) الفلسطينيين كثيرا لدرجة عدم القدرة على نقدهم أو حتى مناقشتهم عندما يخطئون. فما الذي يعنيه الخروج من غزة بشكل استراتيجي؟ أول ما يعني هو بداية تصفية القضية الفلسطينية كما نعرفها، والعودة 60 عاما إلى الوراء، هذا في أحسن الأحوال وأحسن الظنون. أي أن تتسلم مصر إدارة قطاع غزة كما كان الحال قبل عام 1967، وبالمقابل، يتسلم الأردن إدارة الضفة الغربية أيضا كما كان الحال قبل عام 1967. فهل هذا ما تريده حماس؟ الخروج من غزة أيضا يعني أن يقيم الفلسطينيون بشكل مؤقت على أرض سيناء، وتدريجياً يتحول الوضع المؤقت إلى وضع دائم، ألم يكن وجود الفلسطينيين في لبنان وضعا مؤقتا ذات يوم، وأصبح الحديث اليوم عن توطين الفلسطينيين في لبنان؟ ألم يكن وجود الفلسطينيين في الأردن وضعا مؤقتا، واليوم يتحدث الإسرائيليون على أن الأردن هي فلسطين، أو فلسطين هي الأردن؟ لم تقل إسرائيل، والتي كانت دائما مسكونة بهاجس سيطرتها على الحدود مع مصر ومع الأردن، شيئا ذا قيمة عندما قام رجال حماس ونساؤها بتكسير الحدود بين مصر وإسرائيل. إسرائيل لم تتحرك لأن هذا السلوك يصب في الخطة المرسومة لتصفية القضية الفلسطينية. فإذا ما أصبحت غزة موضوعا مصرياً، وإذا ما أصبح الخروج هو الهاجس الفلسطيني الأوحد، فلن يتحدث عاقل في العالم عن موضوع حق العودة. لن يتحدث عاقل أيضا عن دولة فلسطينية مقطعة الأوصال. فرؤية بوش التي تكلم فيها عن دولة فلسطينية مترابطة جغرافياً تكون قد سقطت عندما نرى بين الحين والآخر خروج 750 ألف مواطن من غزة إلى مصر، أي ما يساوي عدد سكان قطر أو البحرين. انتهى حلم الدولة. وهنا تكمن الغرابة. إنها سياسة الترانسفير (أي نقل الفلسطينيين إلى الجانب الآخر) البطيئة. خروج الفلسطينيين من غزة هو حلم إسرائيل في الترانسفير، وهو ما حققته لها حماس.

وللدلالة على ما ذكرت، أدعو القارئ لأن يطلع على ما تمخض عنه مؤتمر هرتسليا للدراسات الاستراتيجية الذي انعقد منذ شهور في إسرائيل. حيث طرح المؤتمر تصورا جديدا للسلام بين العرب وإسرائيل، الأساس في هذا التصور هو تعديل خرائط الشرق الأوسط بشكله الحالي. أي أن يستقطع جزء من شمال سيناء ويعطى للفلسطينيين وتعوض مصر عن هذه الأرض في صحراء النقب. قدم هذا التصور على أنه رحمة بالفلسطينيين المكدسين في تلك البقعة الصغيرة من الأرض كي تتسع بهم المساحات ويمكن لحظتها الحديث عن دولة فلسطينية لها قدرة على الحياة. هذا التصور طرح أيضا تعديل الحدود مع لبنان وسورية والأردن.

حتى لا يظن بنا الظنون، أقول إن الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني ليس جديدا، فقد انشق الفلسطينيون في الثمانينات ودخلوا معارك عرفت بحرب المخيمات بين مايو (أيار) 1985 ويوليو(تموز) 1988. الاقتتال كان دائراً بين بعض الفصائل الفلسطينية وحركة أمل اللبنانية ضد الفصائل الفلسطينية الموالية لياسر عرفات حول مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت. وكان اللواء السادس الذي انشق عن الجيش اللبناني إبَّان انتفاضة السادس من فبراير(شباط) 1984، قد التحق بحركة أمل وساهم في حصار المخيمات. كانت الغاية من الحرب هي تقليص نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات في لبنان.. لكن اليوم اختلف الأمر. الفلسطينيون اليوم يسهمون وبشكل فعال ومباشر في تصفية قضيتهم، ويساعدهم في ذلك العرب ممن يظنون أنهم يؤيدون القضية الفلسطينية، أو ممن (صدعونا) يتأييدهم للقضية، وهم في قرارة أنفسهم يعرفون بأنهم يصفونها.

فهل يحتاج الفلسطينيون اليوم إلى عدو، وهم أعداء أنفسهم؟ وهل أصبح الأمل بأن تتعافى القضية الفلسطينية بعد الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني الأخير ضربا من الوهم؟ وهل دخلت القضية الفلسطينية في موت سريري يمهد لموتها الكامل؟ هذه الأسئلة وغيرها ليست دعوة لتثبيط الهمم، وإنما هي دعوة لمواجهة واقع مرير وخطير، بل هو الأكثر مرارة والأخطر في تاريخ القضية الفلسطينية.