أصيلة.. لماذا؟

TT

يحل موسم كل صيف، وتبرز وفية أصيلة، في اتكاءتها على المحيط، مستندة صخر الشاطئ، منتعلة رماله، ملتحفة عباءة زرقة صافية متدرجة، ما بين موج وأفق وسماء، فاتحة ذراعيها تستقبل عشاقها من كافة ربوع الوطن ومختلف القارات، في مواعيد ولقاءات أصبح العالم الإبداعي يضبط زمانه على ايقاعها، ويرصد مدراج تجدده على مدارات انتظامها.

لماذا، أصيلة بالذات، تنفرد بهذا الإجماع العالمي، والقبول الكوني، باعتبارها موعدا للفائدة والتواصل مع متعة الجمالية الرفيعة الراقية؟ ما الذي يجعل التعامل معها، والنظر اليها يتم من زاوية وحيدة، باعتبارها تجربة فذة ناجحة، ومشروعا حضاريا انسانيا متكاملا؟

أيعزى ذلك الى شمولية برامجها وتنوع فعالياتها؟ قد يكون، بيد ان الواقع يظهر لنا حيثما نلتفت كل آن وحين، مهرجانات ولقاءات ومؤتمرات موسمية، تقام بين أيدينا ولدى غيرنا، تتزين نفس اللبوس أو تكاد، ما تلبث في معظمها أن يطويها النسيان، او تدخل في الروتين المعتاد، تنتظم لتنفرط، وتنفرط لتنتظم في احسن الاحوال، بطعم الاداء الواجب قضاؤه، حضورا ومشاركة وتنظيما وانعقادا.

أيكون ذلك في الاستمرارية والانتظام، وأصيلة تحتفل اليوم بعيد موسمها الثلاثين؟ وكم رأينا بين أيدينا ولدى غيرنا، من مهرجانات وفعاليات، منها ما يتعدى هذا العمر انتظاما ودواما، ومنها ما يقل عن ذلك قليلا او كثيرا، لكنها وهي تشترك في خاصية الاستمرار والدوام، فالصورة تختلف، والمدى يقصر، والمقارنة تخل.

أم لعله في النجاح المتمثل في مظاهر الاقبال الجماهيري من عموم الشعب ونخبه على السواء، وفي نوعية المشاركين من أعلام وأفذاذ في مختلف الميادين، ولنقل نجوميتهم؟ ومع ذلك كم رأينا ونرى بين ايدينا ولدى الغير ايضا، من ملتقيات، مهرجانات ومؤتمرات موسمية، تراهن على «نجومية» المشاركين، تنجح في استقدامهم باذلة ما يبذل وأكثر، لتظل بعد ذلك كله، رهينة ما ارتهنت له، يقصدها القاصد بغرض اللحظة الفرجوية العابرة، ولا شيء اكثر، وتسمع من اصحابها المنظمين والموالين، فلا يعبرون عن طموح يتجاوز جلب اكبر ما يمكن من جمهور، بطعم النجومية والفرجة وبريق الادهاش، دون اثر من ادنى تطلع لعلاقة من نوع ما، ينشد لها التمكين والرسوخ، أو يؤسس لها على تفاعل من عقل ووجدان وسلوك، وهكذا تبرز اصيلة في مهرجانها الثقافي ومختلف مؤسساتها، لتبقى مخالفة لغيرها، متفردة بذاتها وهويتها، مهما جاءت مماثلة المغايرات، مهما بلغت درجتها، وتقارب مستواها.

ويبقى السؤال: اذن، لماذا؟ أما لكي نفهم بعض الشيء، فعلينا ونحن في العيد الثلاثين لموسم اصيلة الثقافي، ان نسترجع ظروف النشأة والتكوين، لنجد ان لا شيء ايجابيا كان يساعد على نجاح التجربة لاكثر من دورة تجريبية يتيمة في احسن الاحوال، فأحرى باستمرارها وتزايد تألقها عقب كل دورة، إلا ان يكون هذا اللاإيجابي بذاته، اهم عوامل النجاح، كما يعتبر البعض ذلك واردا في بعض الظواهر والحالات، وهو باب لا داعي للدخول فيه، فعلى المستوى الوطني والعام إذ ذلك، كان الجو الثقافي صراعيا بامتياز، وخارج كل عقلنة بامتياز كذلك، وبطبيعة الحال، لا ينكر حق او يراود شك، في نظريات رائعة وتصورات جميلة، كانت ترتسم في آفاق غير محددة او محددة على وهم، في المجالات المختلفة من ثقافية واجتماعية وسياسية، لكن الواقع في عمومه كان آيديولوجيا مغلقا بامتياز، فئويا تكتليا وخانقا للفردانية والارادة المبادرة الحرة، بامتياز كذلك.

وتنبثق اصيلة المنزوية المستندة بهدوء وسكينة الى ضفة المحيط، كالمنتفضة في هون من غفوة طالت، على ايقاع حلم غير مبرر، ترنو في طموح ورهان، الى ان تزف نفسها للعالم حسناء ممنعة حصينة، يخطب ودها ويطلب قربها، ومنارة حضارية يؤنس شعاعها السائرين والساهرين، من سدنة الريشة واللون والصوت وسائر الفنون الابداعية، ويبدو فتاها سي محمد بن عيسى ورفقته اذ ذلك، فارس احلامها، ممتلئا ثقة وجرأة، مهوسا كأي فنان، برؤيته اللامرئية للكون، في ضوء تصوره لما يجب ان يكون، وببصيرة مهندس معماري نافذة، يتملى معالم المشروع الصرحي في ذهنه، قبل ان تمتد المعالم  تلك خطوطا على ورق، وايضا قبل، قبل.. ان تملأ حيزا ما على ارض الواقع، لينزل فارس الاحلام بمرمى اصيلة الهلامي اللامبرر، غير المحدد ولا المحدود، من مستوى الامل الى مستوى العمل، متسلحا بتحرر فكري، وليبرالية ثقافية اجتماعية وسياسية، مؤمنا بأسبقية الاداء العملي على التأمل والتصور، او معهما بعدهما بلا فاصل، إلا ما تقتضيه المنهجية والبرمجة الدقيقة المحبوكة، وكان عليه ان يجابه في أكثر من واجهة، ليقنع بمشروعية توجهه من جهة، وليفعله مقدما نموذج انجازه متحققا في الواقع من جهة اخرى، وكان طبيعيا ان يناهض ويعارض من قبل الغير، لكن لا لمجرد المناهضة والمعارضة، فتلك فزاعة عامة فارغة، وانما على اساس من معايب ومآخذ مفترضة من صميم مشروعه، متمثلة في تحرريته الفكرية الكاملة، وانفتاحه المطلق لكل شيء، وعلى كل شيء بما فيه المناهض لتوجهه وأطروحته.

من هنا يتلمس نجاح مؤسسة منتدى اصيلة: انبثقت هادئة مسالمة متفتحة، لكن برسالة واضحة في هذا الاتجاه، تحتمل المخالفة والسجال او تستوجبهما، إنما بسلاسة أدوات، وطلاقة فكر ومنطق، وبوضوح في الرأي والموقف.

في مشروع كهذا، لا أثر لاعجاز او تعجيز، والقصور في أي شبيه مفترض أو نظير، إنما يأتي من قصور التصور، ونقص في سد التفاوت ما بين المأمول والعمول، وعلى العموم فان الكاريزما الشخصية للمؤسس الاستاذ محمد بن عيسى، هي ما ينعكس على مشروعه، وبقدر ما نندهش للسحرية التي اصبحت بها اصيلة مراما ثقافيا ودار إقامة رمزية وواقعية، للكثير من أفذاذ العالم وشخصياته المرموقة، بقدر ما لنا ان نتخيل كيف تجاوب او تعلم ان يستجيب المجتمع الاصيلي للظاهرة، بتفاعل عفوي تمسكه لوحات الفنانين وأقلام الكتاب وعدسات المصورين، وتلهج به وتنهج ألسنة ولغات.

وتتجلى الرسالة في عمقها على مدى ثلاثة عقود اصيلية، في روائع من انجازات ومؤسسات وعلاقات وظيفية محسوسة وشاهدة على  عصرها، هذه المدينة الصغيرة في احلامها الكبيرة، وفي انزوائها على ضفة المحيط، في تواضع حالها وسمات مجتمعها من مطاردي ارزاقهم بخيوط دقيقة، وشباك مبسطة ما بين عتو لجج وهدير موج، تماثل نظير ذلك في نمط حياة مجتمع يوناني قديم عريق، ما فتئ عبر العصور، وسكينة يطارد جمالا فكريا باهرا، وحكمة ربانية خالدة، اسموها فلسفة، كذلك تبدو في تواضع بداياتها وبعد مراميها احلام اصيلة، مجتمع حرفيين بسطاء وصيادي رزق على ظهور الموج قبل ان تصبح منارة فكرية وفنية وطنية وعالمية، وهكذا يصبح الحرفي الاصيلي المتواضع في زاوية شغله موضوعا منشودا ومحاورا مباشرا، وصديقا حميما للاعلام من المبدعين والمفكرين وكبار القادة السياسيين من مختلف بقاع العالم، فلقد صادفها اخيرا هنا، كما صادفها اليوناني قبله هناك، ويسميها: «مذاق الصبر والسكينة».

هكذا هي اصيلة، في مهرجانها، ومؤسسة منتداها، تبدو وحدها وتبقى، محتفظة بملامح التفرد، وسر التميز، في رسالتها، في شخصية وشخص مواسمها وفي مجتمعها.

* كاتب وروائي مغربي