أين أنت يا ستالين؟

TT

حرب أخرى تخوضها روسيا في محيطها الثمين .. المزعج.

حكاية روسيا مع القوقاز طويلة ومعقدة، بصرف النظر عمّن يدير الدفة في رأس هرم السلطة، من بطرسبرج أيام القياصرة إلى موسكو بعد 1918. ولا حاجة للغوص في مجلدات تاريخ القوقاز الذي يجوز الشك في مدى فهم الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي له، أو الخوض في شرح مغبّة لعب دور «قوات اقتحام» ضد دولة بحجم روسيا تتجمّع في ضميرها السياسي في آن معاً كل عقد العظمة والقوة والحصار والإذلال.

روسيا اليوم على مفترق طرق.

القوى الدولية الكبرى المنافسة تفهم هذه الحقيقة مع أنها تتصرّف احياناً وكأنها لا تدري، لكن الأهم أن القيادة الروسية تدري تماماً ما هو حاصل وتفهم ما هو مقصود.

فموضوع مد نطاق عضوية حلف شمال الأطلسي «ناتو» إلى حدود روسيا نفسها بعد تجريدها من «جناحيها» السلافيين أوكرانيا وروسيا البيضاء علامة فارقة في سياق تأكيد هزيمتها والإمعان في تقليص حجمها. ثم أن محاولة منع موسكو من ممارسة ما تعتبره «حقها» في التعامل مع أقلياتها في «كياناتهم القومية» ضمن الكيان الروسي المنحسر يشكل في نظرها إصراراً آخر على تشديد الحصار وتعميق الشعور بالعجز والخضوع.

هذه هي قراءة القيادة الحالية في موسكو، ممثلة بـ«الرجل القوي» فلاديمير بوتين رئيس الحكومة وحليفه رئيس الجمهورية دميتري ميدفيديف، التي تعتبر نفسها صاحبة مشروع إعادة بناء عظمة روسيا، وهذا هو منطلق تعاملها مع الأوضاع الإقليمية والدولية.

إنها، بكل بساطة، عن خطأ أو عن صواب، ترفض أن تُعامل كسقط المتاع .. كـ«وكيل تفليسة» من مستوى بوريس يلتسين. ولذا ترى أنه يجب أن يكون لكل شيء ثمنه في علاقاتها مع الأصدقاء والخصوم.

وقد يصحّ أخلاقياً أن تثير الدول الغربية ضد موسكو قضايا حقوق الإنسان ـ ولا سيما الأقليات ـ ولو بصورة ابتزازية، كما فعلت لسنوات طويلة مع الاتحاد السوفياتي السابق وكما تفعل حتى اليوم مع الصين، لكن من الإنصاف أيضاً القول إن قضايا حقوق الإنسان، وبالأخص الأقليات، في العديد من الدول الغربية أو المرضي عنها غربياً ليس فوق مستوى الانتقاد.

وما يخطر بالبال، على سبيل المثال فقط، المسلك المخزي لمعظم الديمقراطيات الغربية إزاء تصفيات الحساب الدموية في البلقان، ومنها مجزرة «جيبي» سريبرينتسا وجيبا في البوسنة والهرسك. فقد كانت هذه الديمقراطيات المتعجلة نهاية «العصر السوفياتي» وملحقاته في البلقان مستعدة للتغاضي عن كل الأحقاد التاريخية الفئوية والتضحية بآلاف الأبرياء لإنجاز تقسيم الكيانات أو تهديدها بالتقسيم.

ولا يختلف وضع القوقاز كثيراً عن الحالة البلقانية، باستثناء أنه يجمع عوامل تفجير إضافية منها النفط، والعلاقة الأوثق لروسيا بالمنطقة، والحدود الحرجة بين العالمين المسلم والمسيحي.

فمن القوقاز خرج بعض أخطر مَن حكم روسيا السوفياتية وتحكّم بمقدّراتها وتولّى مناصب رفيعة فيها، في مقدّمهم الجورجيون جوزيف دجوغاشفيلي «ستالين» وغريغوري أوردجونيكيدزه ولافرينتي بيريا (وهو أبخازي جورجي) وإدوارد شيفاردنادزه، والأرمني أنستاس ميكويان، والآذربيجاني حيدر علييف، والشيشاني رسلان خاص بولادوف وغيرهم ... بل أن آخر زعماء الاتحاد السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، نفسه، من أبناء القوقاز الشمالي.

ولئن كانت روسيا الاتحادية الحالية ما زالت تستوعب بداخلها كيانات عديدة لغير الروس السلافيين، منها عدد من كيانات القوقاز، فجورجيا ليست بلداً صافي القومية تماماً. وما سلسلة انتفاضات أبخازيا وأجاريا وأوسيتيا الجنوبية ـ ولو كانت تحظى بتغذية موسكو ـ إلا دليلا على حاجة المستر ساكاشفيلي للتفكير مليّاً بتبعات زجّ بلاده في حرب أكبر منها.

لا أحد ينكِر أن «جيرة» الدول الكبرى مسألة حساسة. ولا أحد يقلّل من شأن توتر العلاقات معها عندما تجد قيادات الدول الكبرى مجالا لتوجيه تهم بالتواطوء مع حركات انفصالية أو استقلالية على أراضيها .. كما تتهم موسكو سلطات تفليس (تبيليسي) اليوم في شأن الأزمة الشيشانية. وحتماً سيكون من السذاجة إنكار وجود علاقة عضوية بين دعم موسكو الاستقلاليين الأبخاز والأوسيتيين الجنوبيين وبين ضيقها من موقف تفليس وداعميها في واشنطن من أزمة الشيشان.

ثم أن لدى الروس ذريعة جاهزة يروِّجونها للتدخل هو أن هناك امتداداً إثنياً طبيعياً للأوسيتيين وللأبخاز داخل روسيا الاتحادية، حيث توجد جمهورية أوسيتيا الشمالية الذاتية الحكم وثلاث جمهوريات أخرى ذاتية الحكم أيضاً تضم شعوباً قريبة عرقياً ولغوياً وحضارياً من الأبخاز هي: أديغيا وكباردينو ـ بلكاريا وقره تشاي ـ شركاسيا.

في إطار هذه الصورة يغدو الحل السياسي التعايشي لا التحرّشي ولا التصادمي مع «جار» بحجم روسيا من أولويات علم السياسة في شقه الواقعي العاقل. لكن الغريب حقاًً أن واشنطن في العديد من الحالات تنصح التّواقين إلى الحرية والعدالة باعتماد مثل هذه المقاربة الواقعية بدلا من التمسك بالمبادئ عندما تتضارب مصالحهم مع مصالح «حلفائها» الحقيقيين .. والأمثلة عديدة في عالمنا العربي.