ديمقراطية من استطاع إليها سبيلا

TT

لا يختلف لبنانيان على أن النظام البرلماني في بلادهم هو «حاجة» سياسية أكثر منه تراثا حضاريا صقلته تجربة تاريخية لتحوله الى قناعة شعبية راسخة... كما هو الحال في معظم الدول الديمقراطية العريقة.

ربما يعود ضعف «التراث الديمقراطي» في لبنان إلى طبيعة نشأته فهو، في الاصل، نظام طارئ على اللبنانيين تعود جذوره التاريخية الى سلطة الانتداب، فرنسا، التي فرضته في العشرينات على الكيان الجغرافي المستحدث آنذاك واستنسخته من دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة (البائدة)... مع الاخذ في الاعتبار الخصوصيات اللبنانية المحلية وتحديدا حالة التنوع المذهبي ضمن الوحدة الجغرافية.

وهنا بيت القصيد في الديمقراطية اللبنانية، فما يعتبر، عمليا، نظاما تمثيليا برلمانيا لا يخرج عن كونه إطار مساكنة لثماني عشرة طائفة دينية هدفه الابرز الحيلولة دون تفرد طائفة واحدة بمقدرات البلاد وحرمان الطوائف الاخرى من «حصتها» فيها وذلك وفق صيغة سياسية فريدة من نوعها سّميت، مجازا، بالديمقراطية التوافقية، أي ديمقراطية المساواة بين جميع اللبنانيين مع التسليم بان البعض «أكثر مساواة» من البعض الآخر.

وعلى الصعيد التطبيقي، ما كانت «ديمقراطية» لبنان يوما مضرب مثل في رفعة الأداء وحسنه. وإذا كانت تحظى بإطراء خاص من الغرب الديمقراطي فذلك لا يعود الى خصوصيتها بقدر ما يعود الى استثنائيتها في منطقة لم تعرف، منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، سوى أنظمة عسكرية تخلف أنظمة عسكرية وتتوارثها حتى الآن.

أما اليوم، وبعد ما سجله الخطاب السياسي لبعض «نواب الامة» في جلسات مناقشة البيان الوزاري لحكومة فؤاد السنيورة من اسفاف في التعبير وانحطاط في الاسلوب، قد يحق لبعض اللبنانيين أن يحسدوا الانظمة الدكتاتورية على قدرتها على كم الافواه... حين يكون الصمت أبلغ من الكلام.

في هذا السياق يصح الاستنتاج بأن مناقشات البيان الوزاري منحت الثقة للحكومة اللبنانية... وحجبتها عن النظام البرلماني اللبناني.

مداخلات بعض نواب البرلمان اللبناني في جلسات مناقشة البيان الوزاري لحكومة «الوحدة الوطنية» كشفت هشاشة النظام البرلماني بحيث يصح القول إن هذه المناقشات كانت الاكثر إساءة لسمعة الديمقراطية اللبنانية من أي ممارسة برلمانية سابقة. ولكن أزمة ديمقراطية لبنان لا تعود إلى اسلوب الخطاب السياسي تحت قبة البرلمان ولا إلى سطحية الثقافة التعددية في لبنان بقدر ما تعود إلى تداخل مقتضيات التمثيل المذهبي مع متطلبات التمثيل السياسي بحيث تطغى هذه على تلك ـ أو العكس بالعكس ـ تبعا لضرورات المرحلة. وغالبا ما تكون اللياقة السياسية ضحية هذا التداخل.

مع ذلك، من المغالاة الاستنتاج بان النظام الديمقراطي اللبناني دخل مرحلة الترهل أو الانحلال. فحتى في هذه الحالة تظل ضمانة استمراره انتفاء البديل العملي لصيغة المساكنة المذهبية على «الساحة اللبنانية».

في أسوأ حالاته سيبقى النظام البرلماني قائما في لبنان وان على قاعدة الديمقراطية «لمن استطاع اليها سبيلا». وملامح هذا الوضع تبدو واضحة من تحوله إلى مجرد واجهة «ديمقراطية» للصيغة التوافقية في الحكم في أعقاب الخلل الذي فرضه على معادلة المساكنة المذهبية تفرد فئة لبنانية واحدة بتنظيم مسلح لم يغب تأثيره عن الحدث السياسي في لبنان منذ انسحاب القوات السورية من أراضيه.

على هذا الصعيد تبرز التبعات السياسية البعيدة المدى لتداعيات الصيغة السياسية المستحدثة في الدوحة والتي أفرزت تركيبة «الثلث المعطل» داخل الحكومة اللبنانية نفسها، ففي نقلها المعارضة السياسية للحكومة من قاعة مجلس النواب الى قاعة مجلس الوزراء، وفي إضفائها حق «الفيتو» على هذه المعارضة (الثلث المعطل)، تؤسس بدعة اتفاق الدوحة إلى الغاء جزئي للعبة البرلمانية في لبنان وربما الى الغاء لاحق للدور الرقابي للسلطة التشريعية على السلطة التنفيذية.

قد يبدو هذا الهاجس مبالغا به في هذه المرحلة. ولكن ذلك لا يحول دون التمني على أصحاب القرار السياسي في لبنان، وتحديدا أقطاب «الحوار الوطني»، طرح هذه الهواجس على طاولة الحوار الموعود برعاية الرئيس ميشال سليمان انطلاقا من سؤال بديهي يتداوله اليوم كل اللبنانيين: أي لبنان نريد؟