أيام فاتت

TT

اجتمعنا نحن نفر من العرب والانجليز والاسرائيليين اليساريين في لندن بعد حرب يونيو1967 وتناقشنا في الأمر واتفقنا على انها كانت حربا عدوانية وتوسعية وامبريالية وتوجب ارغام اسرائيل على العودة الى حدودها السابقة. حاولنا ان ننشر افكارنا بشأن الحرب وكل ما كان يجري في الشرق الاوسط عموما في وقت تزاحمت فيه الافكار بشأن تلك الازمة. فلم نجد من يعبأ بهذه الشلة. فقررنا نشرها بشكل اعلان كبير في صحيفة «التايمس». اخبرونا ان الاعلان يتطلب تخصيص نصف صفحة وكلفته 18000 باوند في قيمة تلك الايام. بالطبع لم يكن بيدنا فلس واحد من هذا المبلغ. ورأينا ان جمع تبرعات له سيفوت الفرصة. جلسنا حائرين. لاحظت ان الزملاء اليهود بيننا اخذوا يتهامسون فيما بينهم. «نقول لروزة ( وهذا اسم مستعار) اولا؟ هل ستتطوع ام سترفض؟».

قرروا في الاخير مفاتحتها. رن التلفون مساء ليبشروني بأنهم فاتحوها وتلقوا جوابا منها بتمويل كامل كلفة الاعلان. وفي اليوم التالي جاءت روزة محملة بشنطة كبيرة. فتحتها فإذا بها مليئة بأوراق نقدية. كنت اتوقع منها ان تأتينا بشيك. ولكن التعامل بالنقد كان سهلا في تلك الايام.

كانت روزة هذه فتاة شابة صغيرة الجسم، قصيرة القامة، شقراء الشعر، يهودية الملامح. لم تكن على درجة كبيرة من الجمال وجاءت بثياب بسيطة جدا وحذاء مستهلك تقريبا. تعجبت من امرها وما جاءتنا به من مال.

سلمنا المبلغ لمحاسب التايمس ونشرنا الاعلان وذهب مع الريح كما توقعت وبقيت اسرائيل متمسكة بما كسبت وبقيت الدول العربية على ما كانت عليه من التخبط والفشل. وكأنك يا تيتي لا رحتي ولا جيتي.

بيد ان روزة ظلت تشغل بالي. وبقيت اتساءل عن سرها. وكان سرها انها كانت ابنة مليونير يهودي، مثل الحزب الشيوعي الالماني في مجلس الرايخشتاغ في برلين. ولكنه انشق عن الحزب بعد ما قام به ستالين في روسيا. ثم هاجر الى بريطانيا بعد صعود هتلر للحكم. واستخدم موهبة اليهود التقليدية في التجارة زائدا ثقافته الماركسية فاقتحم اسواق لندن. ولم تمر اعوام طويلة حتى اصبح من كبار اثريائها. ولكن جذور الاشتراكية ظلت مغروسة في قلبه. وعمد من عرفوه الى طرق بابه والتماس مساعدته في اي امر انساني وتقدمي. ويظهر ان ابنته الوحيدة روزة اقنعته بأننا اهل لذلك، وان إعلاننا يقع في ذلك الاطار وسيقلب الدنيا رأسا على عقب. واعتاد الرجل على تقديم مساعدته كاش ودون كشف هويته. وهكذا جاءنا المبلغ. نقدا وفي شنطة صغيرة تحملها صبية صغيرة.

نسيت الاعلان وكل ما كتبناه ولكنني لم انس روزة. التقيتها فيما بعد ودعوتها للعشاء معي ثم زرتها في شقتها الواسعة ودعوتها لشقتي المتواضعة فرفضت. بنات المليونيرية يتشككن في كل من يتقرب اليهن من الصعاليك من امثالي. واعتقد انها كانت على حق. اختفت من حياتي كما اختفى امر ذلك الاعلان. وكانت ايام وفاتت مع كل الايام التي فاتت... وراحت.

www.kishtainiat.blogspot.com